Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 8-8)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر ، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف ، وإلى الحاجة لمن يخدمهما ، وحين ننظر في حال الغربيين مثلاً وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية ، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برِّهم بهم ، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين . لذلك قال أحد الحكماء : الزواج المبكر خير طريقة - لا لإنجاب طفل - إنما الإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك . لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة ، تضمن سلامة المجتمع المؤمن ، فقال سبحانه : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً … } [ العنكبوت : 8 ] ، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً … } [ الأحقاف : 15 ] . وفَرْق بين المعنيين : { حُسْناً … } [ العنكبوت : 8 ] أي : أوصيك بأنْ تعملَ لهم الحُسْن ذاته ، كما تقول : فلان عادل ، وفلان عَدْل ، فوصَّى بالحسْن ذاته . أما في { إِحْسَاناً … } [ الأحقاف : 15 ] فوصية بالإحسان إليهما . لكن ، لماذا وصَّى هنا بالحُسْن ذاته ، ووصَّى هناك بالإحسان ؟ قالوا : وصَّى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني ، حيث قال : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ … } [ العنكبوت : 8 ] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة ، ويدعو إلى الخصومة ، فأكَّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما لا مجرد الإحسان لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف . أما حين لا يكون منهما كفر ، فيكفي في برِّهما الإحسان إليهما لذلك يقول سبحانه : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] . والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين ، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلةَ إيضاح لأصل الوجود ، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان ، فكذلك ومن باب أَوْلى يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود . فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية ، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة لأنه سبحانه الخالق الحقيقي ، أما الوالدان فهما وجود سببي . هذا إيناس بالإيمان ، بيَّنه تعالى في قوله : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … } [ النساء : 36 ] لأنهما سبب الوجود الجزئي ، والله تعالى سبب الوجود الكلي . وهذا أيضاً من المواضع التي وقف عندها المستشرقون ، يبغُونَ فيها مَطْعناً ، ويظنون بها تعارضاً بين آيات القرآن في قوله تعالى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] وفي موضع آخر : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ … } [ المجادلة : 22 ] . وهذا التعارض لا يوجد إلا في عقول هؤلاء لأنهم لا يفهمون لغة القرآن ، ولا يفرقون بين الودِّ والمعروف : الودّ مَيْل القلب ، وينشأ عن هذا الميل فِعْل الخير ، فيمن تميل إليه ، أمّا المعروف فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ لا تحب ، فهو استبقاء حياة . وهنا يقول سبحانه : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 8 ] يعني : تذكَّر هذا الحكم ، فسوف أسألك عنه يوم القيامة ، ففي موضع آخر { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 15 ] . فكُفْر الوالدين لا يعني السماحَ لك بإهانتهما أو إهمالهما ، فاحذر ذلك لأنك ستُسأل عنه أمام الله : أصنعتَ معهما المعروف أم لا ؟ وحيثيات الوصية بالوالدين : الأب والأم ذُكرت في الآية الأخرى : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً … } [ الأحقاف : 15 ] نلحظ أن الحيثيات كلها للأم ، ولم يذكر حيثية واحدة للأب إلا في قوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] وهذه تكون في الآخرة . قالوا : ذِكْر الحيثيات كلها للأم لأن متاعب الأم كانت حال الصِّغَر ، والطَفل ليس لديه الوعي الذي يعرف به فَضْل أمه وتحمُّلها المشاق من أجله ، وحين يكبر وتتكوَّن لديه الإدراكات يجد أنَّ الأب هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه . إذن : فحيثيات الأب معلومة مشاهدة ، أمّا حيثيات الأم فتحتاج إلى بيان . يقول الحق سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } .