Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يذكر لنا - سبحانه وتعالى - النتائج { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ العنكبوت : 7 ] أي : بالله رباً ، له كل صفات الكمال المطلق ، وله طلاقة القدرة ، وله طلاقة الإرادة ، وهو المهيمن ، وهو الحاكم … إلخ . ثم { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ العنكبوت : 7 ] لأن العمل الصالح نتيجة للإيمان ، وثمرة من ثمراته ، والصالح : هو الشيء يظلُّ على طريقة الحُسْن فيه فلا يتغير ، فقد أقبلت على عالم خلقه الله لك على هيئة الصلاح فلا تفسده ، وهذا أضعف الإيمان أنْ تُبقِي الصالح على صلاحه ، فإن أردتَ الارتقاء ، فزِدْه صلاحاً . يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [ البقرة : 11 ] . فقد أعدَّ الله لنا الأرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها ، أَلاَ ترى المناطق التي لا ينزل بها المطر يُعوِّضها الله عنه بالمياه الجوفية في باطن الأرض ، فماء المطر الزائد يسلكه الله ينابيع في الأرض ، ويجعله مخزوناً لوقت الحاجة إليه ، وتخزين الماء العذب في باطن الأرض حتى لا تُبخِّره الشمس ، يقول تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] . وضربنا مثلاً لترك الصالح على صلاحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء ، فقد نرمي فيه القاذورات التي تُفسد ماءه ، وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه ، وهذا كله من إفساد الصالح ، وربما يأتي مَنْ يبني حوله سوراً يحميه ، أو يجعل عليه آلة رَفْع ترفع الماء وتُريح الناس الذين يردونه ، فإذا لم تكُنْ من هؤلاء فلا أقلَّ من أن تدعه على حاله . فالصالح إذن : كل عمل وفكر يزيد صلاحَ المجتمع في حركات الحياة كلها ، وإياك أن تقول إن هناك عملاً أشرف من عمل ، فكل عمل مهما رأيته هيِّناً - ما دام يؤدي خدمة للمجتمع ، ويُقدِّم الخير للناس فهو عمل شريف ، فقيمة الأعمال هي قيمة العامل الذي يُحسِنها وينفع الناس بها ، يعني : ليس هناك عمل أفضل من عمل ، إنما هنَاك عامل أفضل من عامل لذلك يقولون : قيمة كل امرىء مَا يُحسِنه . وسبق أن ضربتُ لذلك مثلاً ، وما أزال أضربه ، مع أنه من أُنَاس غير مسلمين : كان نقيب العمال في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفِّر لهم المزايا ، فلما تولى الوزارة قالوا له : أعطنا الآن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا ، وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات وميزانيات الوزارة ، أما الآن فقد أصبح هو وزيراً ، وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال وقال : لا تنْسَ أنك كنت في يوم من الأيام ماسحَ أحذية ، فقال : نعم ، لكنني كنت أتقنها . ثم يذكر الحق سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح : { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ … } [ العنكبوت : 7 ] وهنا تتجلى العظمة الإلهية ، حيث بدأ بتكفير السيئات وقدَّمها على إعطاء الحسنات . لأن التخلية قبل التحلية ، والقاعدة تقول : إن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة ، فهَبْ أن واحداً يريد أنْ يرميك مثلاً بحجر ، وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة ، فأيهما تستقبل أولاً ؟ لا شكَّ أنك ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولاً . والخالق - عز وجل - يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم في المعصية ، وما دام أن الشرع يُعرِّف لنا الجرائم ويُقنِّن العقوبة عليها ، فهذا إذنٌ منه بأنها ستحدث . لذلك يقول تعالى لعباده : اطمئنوا ، فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولاً قبل أنْ أعطيكم الحسنات ، ذلك لأن الإنسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة ، فيقول سبحانه : { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ … } [ العنكبوت : 7 ] . بل وأكثر من ذلك ، ففي آية أخرى يقول سبحانه : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ] فأيُّ كرم بعد أنْ يُبدِّل الله السيئة حسنةً ، فلا يقف الأمر عند مجرد تكفيرها ، فكأنه أوكازيون للمغفرة ، ما عليك إلا أنْ تغتنمه . وفي موضع آخر يقول سبحانه : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ … } [ هود : 114 ] وفي الحديث الشريف : " … وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها " . ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 7 ] قلنا : إن الحق سبحانه إذا أراد أنْ يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الأغنياء { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً … } [ البقرة : 245 ] . مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده ، ويحترم مجهوداتهم وعرقهم ، فاحترم العمل واحترم ثمرة العمل ، كما يعامل الوالد أولاده ، فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه ماله حين مَيْسرة ، فكما أنك لا ترجع في هبتك ، كذلك ربُّك - عز وجل - لا يرجع في هبته . وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول : هناك تعارض بين قول القرآن : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا … } [ الأنعام : 160 ] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مكتوب على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر " . فشاء الله أن يلهم بكلمتين للردِّ عليه ، حتى لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل . فقلت للمترجم : نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدَّق ، لكن في القرض مثلاً لو تصدَّق بدولار فهو عند الله بعشرة دولارات ، لكن يعود عليك دولارك مرة أخرى ، فكأن لك تسعة دولارات ، فحين تضاعف تصير ثمانية عشر . وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الأولى في تكوين المجتمع ، وهي دائرة الأسرة المكوَّنة من : الأب ، والأم ، والأولاد ، فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الأولى ليصلح المجتمع كله ، فقال تبارك وتعالى : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً … } .