Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 111-111)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لكن الحق سبحانه يطمئن هذه الأقلية من إضرار الأكثرية بهم فيقول : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [ آل عمران : 111 ] . أي يا أيتها الأقلية التي آمنت من أهل الكتاب - مثل عبد الله بن سلام الذي أسلَم وترك اليهودية - إياكم أن تظنوا أن الأكثرية الفاسقة قادرة على إنزال العذاب بكم فالحق - سبحانه - يعلن أن محاولة الأكثرية لإنزال الضرر بالأقلية التي آمنت منهم لن يتجاوز الأذى . ما هو الضرر ؟ وما هو الأذى ؟ إن الأذى هو الحدث الذي يؤلم ساعة وقوعه ثم ينتهي ، أما الضرر فهو أذى يؤلم وقت وقوعه ، وتكون له آثار من بعد ذلك ، فعندما يصفع الإنسان إنساناً آخر صفعة بسيطة فالصفعة البسيطة تؤلم ، وألمها يذهب مباشرة ، لكن إن كانت الصفعة قوية وتتسبب في كدمات وتورم فهذا هو الضرر . إذن فالأذى يؤلم ساعة يُباشَر الفعل فقط ، وقد يكون الأذى بالكلمة كالاستهزاء ، فالفاسق قد يستهزئ بالذي آمن ، فينطق بكلمة الكفر أو الفُجْر ، هذه الكلمة ليس لها ضرر في ذات المؤمن ولكنها تؤذي سمعه . إن الحق سبحانه يطمئن المؤمنين على أن أهل الكفر لن يضروا المؤمنين إلا أذى ، وهذا أقصى ما في استطاعتهم ، وليس لهذا الأذى أثر . إذن فقول الحق : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [ آل عمران : 111 ] يعني أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منكم أبداً اللَّهم إلا الاستهزاء أو الغمز واللمز ، أو إشارة بحركة تؤذي شعور المؤمن ، أو تمجد الكفر ، وتعظمه أو بنطق كلمة عهر أو فجر لا يوافق عليها الدين ، هذا أقصى ما يستطيعه أهل الفسق ، وهم لا يملكون الضرر لأهل الإيمان . وبعد ذلك نرى أن واقع الأمر قد سار على هذا المنوال مع الدعوة المحمدية ومع جنود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . لقد أطلقها الله كلمة : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } [ آل عمران : 111 ] فصارت الكلمة قانوناً . فقد وقعت الوقائع بين جند رسول الله وأهل الفسق ، وثبت أن أهل الفسق لم يستطيعوا ضرر أهل الإيمان إلا أذى . ولننظر إلى ما حدث لبني قينقاع ، ولما حدث لبني قريظة ، ولما حدث لبني النضير ، ولما حدث ليهود خيبر ، هل ضروا المؤمنين إلا أذى ؟ لقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغراراً لا علم لهم بالحرب فانتصرت عليهم ، فإذا أنت حاربتنا فستعرف مَن الرجال . وكان ذلك مجرد كلام باللسان . إن التاريخ يحمل لنا ما حدث لهم جميعاً ، لقد هزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعد هذا أرادوا أن يرتفعوا عن الأذى إلى الضرر الحقيقي فلم يمكنهم الله لأن الحق يقول : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } [ آل عمران : 111 ] ، فإن أراد أهل الفسق أن يُصَعِّدوا الأذى للمؤمنين ليوقعوا ضرراً حقيقياً ، فإن الكافرين يولون الأدبار أمام المؤمنين ، فهزيمتهم أمر لا مناص منه . ونحن نعرف في اللغة أن هناك ما نسميه " الشرط " وما نسميه " الجواب " فـ " إنْ " حرف شرط تجزم فعل الشرط وجوابه فإنْ كان الفعل من الأفعال الخمسة فإنّنا نحذف النون ، لذلك نجد القول الحق : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ } [ آل عمران : 111 ] . إن " يقاتلوكم " فعل شرط محذوفة منه النون . و " يولوكم الأدبار " أصلها يولونكم الأدبار . وهي جواب شرط حذفت منه النون ، وعندما يأتي العطف بعد ذلك ، فهل يكون بالرفع أو الجزم ؟ إن العادة أن يكون العطف بالجزم ! ! لكن الحق يعطف بالرفع فيأتي قوله : " ثم لا ينصرون " . إنها كسرة إِعْرَابِيَّة تجعل الذهن العربي يلتفت إلى أن هناك أمراً جللاً ، لأن المتكلم هو الله سبحانه . كيف جاءت " النون " ؟ هنا نقف وقفة فَلننطق الآية ككلام البشر : إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصروا . وهذا القول يكون تأريخاً لمعركة واحدة ، لكن ما الذي سوف يحدث من بعد ذلك ؟ ماذا يحدث عندما يقاتل المؤمنون أهل الكفر والفسق ؟ وتكون الإجابة هي : " ثم لا ينصرون " إن هذا القول الحكيم يحمل قضية بعيدة عن الشرط والجزاء ، إنها حكم من الله على أهل الفسق بأنهم لا يُنصرون أبداً سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا إنها قضية ثابتة منفصلة ، وليست معطوفة على الشرط ، فَعِلَّةُ عدم النصر ، ليست القتال ، ولكنها الكفر . وإذا دققنا الفهم في العبارة حروفاً - بعد أن دققنا فيها الفهم جملاً - لوجدنا معنى جديداً ، فقد يظن إنسان أن القول كان يفترض أن يتأتى على نحو مغاير ، هو " يولوكم الأدبار فلا ينصرون " لأن الذي يأتي بعد الـ " فاء " يعطي أنهم لا ينتصرون عليكم في بداية عهدكم ، وهذا ما تفيده الفاء لأنها للترتيب والتعقيب . لكن الحق أورد حرف " ثم " وهو يفيد التراخي ، وهذا يعني أنهم لا ينصرون عليكم أيها المؤمنون حتى لو استعدوا بعد فترة لمعركة يَرُدُّونَ بها على توليهم الأدبار . إنه حكم تأبيدي ، لأن " ثم " تأتي للتعقيب مع التراخي ، والفاء تأتي للتعقيب المباشر بدون تراخ . ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجد وضع الفاء كالآتي : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ] . لأن دخول القبر يكون بعد الموت مباشرة ، وبعدها يقول الحق : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . فإذا كان هناك تعقيب بعد مدّة زمنية فالحق يأتي بـ " ثم " وإذا كان هناك تعقيب فوري بلا مدّة يأتي الحق بـ " ف " . والتعقيب في الآية التي نتناولها يأتي بعد " ثم " ، وكأن هذا حكم مستمر من الحق بأن أهل الفسق لن ينتصروا على أهل الإيمان ، ولم بعد انتهاء المعركة القائمة الآن بينهم ، إنها هزيمة بحكم نهائي ، هذا هو القول الفصل : " ثم لا يُنصرون " وهو أشد وقعاً مما لو جاء " لا ينتصرون " لماذا ؟ لأن من الممكن ألاّ ينتصر أهل الكفر بذواتهم ، ولكن الإيضاح يؤكد أنهم - أهل الكفر - لا ينتصرون لا بذواتهم ، ولا يُنصرون بغيرهم أيضاً . إن " ثم لا ينصرون " قضية قائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول الله فقط ، ولكنها ستظل إلى أبد الآبدين . ومن السطحية في الفهم أن نقول : إن الآية كانت تتطلب أن يكون القول " ثم لا ينصروا " لأن الإعراب يقتضي ذلك . لكن المعنى اللائق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان والاطمئنان للأمة المسلمة أمام خصومها لا بد أن يقول : " ثم لا ينصرون " وهي أكثر دقة حتى من " لا ينتصرون " لأن " ينتصرون " فيها مدخلية الأسباب منهم ، أما " ثم لا ينصرون " فهي تعني أن لا نصر لهم أبداً ، حتى وإن تعصب لأهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن يستطيعوا ذلك . فإن رأيتم - أيها المسلمون - نصراً للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم لهم فاعلموا أنكم دخلتم معهم على غير منهج الله . وقد يأتي إنسان ويقول : كيف ينتصر علينا اليهود ونحن مسلمون ؟ ونقول : هل نحن نتبع الآن منهج وروح الإسلام ؟ وماذا عندنا من الإسلام ومن الإيمان ؟ هل تحسب نفسك على ربك أثناء هزيمتك ؟ وهل دخلت معركتك كمعركة إسلامية ؟ لا ، لقد انتبهنا إلى كل شيء إلاّ الإسلام . قدمنا الانتماء لعصبية وقومية وعرقية على الإيمان فكيف نطلب نصراً من الله ؟ لا يحق لنا أن نطلب نصرة لله إلا إذا دخلنا المعركة ونحن من جند الله . والهزيمة تحدث عندما لا نكون جنداً لله لأن الله ضمن النصر والغلبة لجنوده فقال : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 173 ] . فإذا لم نغلب فتأكدوا أننا لسنا من جنود الله … ويقول الحق من بعد ذلك : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ … } .