Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 117-117)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إن الحق يصف ما ينفقه هؤلاء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج الله إنه - سبحانه - يشبهه بريح فيها صر ، أي شدة ، فمادة " الصاد والراء " تدل على الشدة والضجة والصخب ، ومثال ذلك ما قاله الحق عن امرأة إبراهيم : { فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الذاريات : 29 ] . إنها أتت وجاءت بضجيج لأنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد . ومثل قوله الحق : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] . والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع . وقوله الحق : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } [ آل عمران : 117 ] أي أن الريح جعلت البرد شائعاً وشديداً ، فالبرد قد يكون في منطقة لا ريح فيها ، ويظل باقياً في منطقته تلك ، وعندما تأتي الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان إلى مكان آخر ، فتتسع دائرة الضرر به . وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد ؟ إنها تفعل الكوارث ، ويقول عنها الحق : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [ آل عمران : 117 ] وساعة نسمع كلمة " حرث " فنحن نعرف أنه الزرع ، وقد سماه الله حرثاً ، ليعرف الإنسان إنه إن لم يحرث فلن يحصد ، يقول الحق : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 63 - 65 ] . كأن الريح العارمة تفسد الحرث ، وهو العملية اللازمة للإنبات فالحرث إثارة للأرض ، أي جعل الأرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة ، وتقوى على اختراقها ، وأخذ الغذاء منها ، وهذه الجذور تستطيع - أيضاً - من خلال هشاشة الأرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللازم للإنبات . إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير ، لكن ذلك لا ينفعهم ولا جدوى منه . مصداقاً لقوله تعالى : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران : 117 ] وهكذا يكون مصير الإنفاق على نية غير مؤمنة ، كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد ، فالـ " صر " فيه الشدة والبرودة والعنف ، وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده : @ أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر عَلَّ يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر @@ إن هذا الرجل الكريم يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاً إلى منزل حاتم الطائي . " والليل القر " : هو الليل الشديد البرودة . و " الريح الصر " : هي الريح الشديدة المصحوبة بالبرد . ونعرف في قُرَانَا أن الصقيع ينزل على بعض المزروعات ، فيتلفها . ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الآية الكريمة بعد أن أوضح لنا في الآية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً ومصيرهم النار ، وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع ، وهي أن هذه الأموال التي أنفقها الكافرون لعمل الخير ، لن تغني عنهم شيئاً في الآخرة لأنهم لا يملكونها . لماذا ؟ لأن العمل إنما يراد للثواب عليه ، والنية دائماً هي التي تحدد الهدف من كل حركة … فهل كان في نية الكفار حين أنفقوا أموالهم في الخير الذي يعلمه الناس كالمساعدات ، وتفريج الكرب ، وإنشاء المستشفيات هل كان في بال هؤلاء الكفار رَبُّ هذه النعم ، أو كانوا يعملونها طمعاً في جاه الدنيا ، وتقدير التاريخ وذكر الإنسانية ؟ لا شك أنهم كانوا يعملونها للجاه ، أو للتاريخ ، أو للإنسانية لأنهم لا يؤمنون بما وراء ذلك ، فهم لا يؤمنون بوجود إله ولا يؤمنون بوجود يوم آخر يُحَاسبون فيه على ما قدموا . وقلنا من قبل : إن الذي يعمل عملاً فليطلب أجره ممن عمل له ، وما داموا قد عملوا للدنيا وذكرها ، وجاهها ، والفخر فيها ، فقد أعطتهم الدنيا كل شيء . الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً ، وهو الذي يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . ومعنى المثل : أن يأتي إلى أمر معنوي قد يغيب عن بعض العقول فهمه ، فيشخصه ويمثله بأمر حسي يعرفه الجميع ، ونحن نعرف أن المحسات هي أصل المعنويات في الفهم . ونعرف أن الطفل أول ما تتفتح إدراكاته يدرك الشيء المحس أولاً ، ثم بعد ذلك يكوّن من المحسات المعقولات . فالطفل - على سبيل المثال - يرى ناراً فيمسكها فتحرقه ، فيتكون عند الطفل اقتناع بأن النار محرقة . ويشرب الطفل عسلاً ، فيجده حلوا ، فيتكون عنده اقتناع بأن العسل حلو الطعم ، ويأكل الطفل شيئاً مراً كالحنظل ، فتتكون عنده قضية معلومة وهي أن هذا الشيء مر الطعم ، فكل المعلومات التي يعرفها الإنسان بوسائل إدراكه المتعددة إنما تأتي من الأمور المحسة أولاً . والأمور المحسة - كما علمنا - وسائلها الحواس الخمس الظاهرة ، وهي : العين لترى ، والأذن لتسمع ، والأنف ليشم ، واللسان ليذوق ، والأنامل لتلمس ، وهكذا نعرف أن كل حاسة ظاهرة لها غاية في الإدراك . والإنسان يتمتع بحواس أخرى ندرك أعمالها ، ولكنا لا ندرك أجهزتها أو آلاتها . مثال ذلك : حاسة البعد وهي أن يعرف الإنسان هل الشيء الذي يراه قريب منه أو بعيد عنه ؟ وكذلك حاسة الثقل فيحمل الإنسان الشيء فيعرف مدى ثقله ، إنه يدرك ذلك الثقل بحاسة غير الحواس الخمس الظاهرة ، هذه الحاسة هي حاسة الثقل يكتشف بها الإنسان أن شيئاً أثقل من شيء آخر ذلك أن العضلات التي تحمل الشيء تعرف قدر الجهد المبذول في الحمل . وهناك حاسة أخرى غير ظاهرة هي حاسة " البَين " فيمسك الإنسان القماش بأنامله ليعرف هل سمك هذا القماش أكبر من سمك قماش آخر ؟ ولمعرفة سمك الشيء لا بد أن يكون واقعاً بين لامسين . إذن فهناك حواس كثيرة تربي المعاني عندنا فكل الإدراكات بنت الحس ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . هذه هي الوسائل للإدراك ، وقد أورد سبحانه السمع والأبصار أولاً لأنهما الوسيلتان الأساسيتان ، وأورد من بعد ذلك " الأفئدة " وهي المختصة بالمعاني والقلبيات وغيرها ، فإذا أراد الله أن يضرب مثلاً في أمر معنوي قد تختلف فيه العقول فهو سبحانه يأتي بأمر حسيِّ تتفق فيه الحواس . ونعلم أن في اللغة أمراً اسمه " التشبيه " ، فعندما يجهل إنسان شيئاً يقول لمعلمه : شبه لي الأمر الذي أجهله بأمر أعرفه . والإنسان منا قد يسأل صاحبه : أتعرف فلاناً ؟ فيقول الصاحب : لا أعرفه ، فيقول الإنسان منا لصاحبه : إن فلاناً الذي لا تعرفه يساوي فلاناً في الطول ، ويساوي فلاناً في اللون . وهكذا ينتقل الإنسان من أمر لا يعرفه إلى أمر يعرفه . والحق سبحانه يضرب لنا المثل بالأمور الحسية ، لنفهم الأمور المعنوية ، والله يوضح لنا أن الذين كفروا ساعة تكون لهم آلهة متعددة فملكاتهم تصاب بالاضطراب يقول - سبحانه - : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . إنه سبحانه يوضح لنا بالمثل الواضح مصير وحال رجل مملوك لعدد من الشركاء ، والشركاء الذين يملكون هذا العبد ليسوا متفقين ، بل بينهم نزاع وشقاق ، وبطبيعة الحال لابد أن يكون هذا العبد مرهقاً ، وهكذا تكون قضية الشرك بالله ، إن العبد في مثل هذه الحالة يكون مُشتّتاً وموزع النفس بين الذين يملكونه وهم متشاكسون ، أما قضية التوحيد فالحق يشبهها بالقول : " ورجلاً سلماً لرجل " . وهكذا ينقلنا الحق سبحانه - رحمة بنا - من المعنى العقدي العالي إلى معنى مُحَس من الجميع ، لنرى أن الرجل المملوك لسيد واحد يتلقى أوامره من واحد فقط ، وكذلك يريد الله في هذه الآية أن يضرب مثلاً لمن ينفق شيئاً على غير نية إرضاء الله في طاعته ، فمهما أنفق هذا الإنسان فإن إنفاقه حابط . ونحن عندما نقرأ أمثال القرآن الكريم علينا ألا نأخذ جزئية فقط ، لا ، لكن يجب أن نأخذ الجملة كلها لنفهم المثل كله كصورة مؤتلفة مثلما ضرب الله لنا مثلاً بالشركاء المتشاكسين الذين يملكون رجلاً ، فعلينا إذن ألاّ نأخذ المثل بحرفيته ، ولكن نأخذ الأمر بمجموع المثل . مثال آخر ، يقول الحق سبحانه : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ] . فهل الحياة الدنيا كالماء ؟ لا ، ولكن قصة الحياة كلها ، تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل ، الماء حين ينزل يختلط بالأرض ، وبعد ذلك تهتز ، فتعطي نباتاً ، والنبات ينتج الزهر الجميل ، وبعد ذلك ينتهي إلى هشيم ، هكذا هي الدنيا في زخرفتها فالبداية مزهرة ، فيها نضارة وخضرة وبهجة ، ونهاية مؤلمة ومدمرة . إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالأزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيماً تذروه الرياح ، وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريم . { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس : 24 ] . وعندما نمعن النظر في قوله الحق : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران : 117 ] . نجد في هذه الآية " مشبهاً " و " مشبهاً به " ، المُشَبَّه هم القوم الذين ينفقون أموالهم بغير نية الله ، أي كافرون بالله ، والمُشَبَّه به : هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر ، والنتيجة أنه لا جدوى هنا ، ولا هناك . ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم ، وهل لا تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم ؟ إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة ، مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين يقول فيهم الحق سبحانه : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } [ القلم : 17 - 20 ] . لقد جزاهم الله بظلمهم ، ولكن ألا نرى رجلاً لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة ؟ إننا نرى ذلك في الحياة ، والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة ، ويصبر على كارثته ، يأخذ الجزاء والثواب من الله ، ولعل الله قد أهلك بها مالاً كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير مشروع . هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء ، أو تكون تطهيراً للمال . أما الذي ينفق على غير نية الله وهو كافر ، فلا ثواب له . ويذيل الحق الآية بقوله { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران : 117 ] فهو سبحانه لم يظلم الكافرين حين جعل نفقتهم بدون جدوى ولا حصيلة لها عنده ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، لأنهم أنفقوا النفقة على غير هيئة القبول ، وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر فَحَبطت أعمالهم ، وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى : ويقول الحق من بعد ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ … } .