Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 11-11)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وساعة تسمع " كدأب كذا " فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول : فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائماً أن يفعل كذا . أو نقول : ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس . فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس ، أو أنه يقوم بأفعال أخرى ؟ إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب ، وهذا هو الدأب . فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة . إذن فقوله الحق : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] أي كعادة آل فرعون . وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية ، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم . ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم ، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة لأنه قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } [ آل عمران : 10 ] . لا ، بل العذاب أيضاً في الدنيا مصداقاً لقوله الحق : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] . إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء ، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] أي كعادة آل فرعون ، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل ، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون الألوهية . ويقول سبحانه : { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ آل عمران : 11 ] فصار الدأب منهم ، ومما وقع بهم ، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب . لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب ، والخالق - سبحانه - يجازيهم على ذلك بتعذيبهم ، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ * وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ * ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 1 - 14 ] . فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب . إذن فقوله الحق : { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ آل عمران : 11 ] أي أوقع بهم العذاب في الدنيا ، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومَن قبلهم من القوم الكافرين . وعندما تسمع قول الله : { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ آل عمران : 11 ] فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب . وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المُحسَّات لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسِّية ، وتُنقل الأشياء الحسّية إلى المعنويات بعد ذلك . لماذا ؟ لأن الشيء الحسِّي مشهود من الجميع ، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون ، والإنسان له أطوار كثيرة . ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه . وقلت قديماً في معنى كلمة " الغصب " : إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة ، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً . ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه ، إنه كالسلخ تماماً ، فالكلمة تأتي للإيضاح . وكلمة " ذنب " وكلمة " عقوبة " مترابطتان فكلمة " ذنب " مأخوذة من مادة ذنب لأن المادة كلها تدل على " التالي " والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان . والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء . إذن فهناك ذنب وهناك عقاب . لكن ماذا قبل الذنب ، وماذا يتلو العقاب ؟ لا يوجد ذنب إلا إذا وُجِدَ نص يُجرّم ، فلا ذنب إلاّ بنص . فليس كل فعل هو ذنب ، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب . يجرّم فعله ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر ، فقال : لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص ، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول : هذا العمل جريمة يعاقب عليها . بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل . إنه لا عقوبة إلا بتجريم ، ولا تجريم إلا بنص . فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل ، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يُجّرم ، ويكون ذلك هو الذنب ، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم . والعقاب يأتي عقب الجريمة ، وهكذا نجد أن كلاً من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه فالذَّنَبُ هو التالي للشيء . ولذلك يسمّون الدلو الذي يملأونه بالماء " ذَنُوبَاً " لأنه هو الذي يتلو الحبل . وأيضاً الجزاء في الآخرة : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } [ الذاريات : 59 ] . أي ذَنوباً تتبع ، وتتلو جريمتهم . إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية القانونية الإصطلاحية الموجودة في كل الدنيا : إنه لا عقوبة دون تجريم . فكان العقابُ بعد الجريمة أي بعد الذنب ، والذنب بعد النص ، فلا نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له : أنت ارتكبت ذنباً . وهذه تحل إشكالات كثيرة ، مثال ذلك : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً } [ النساء : 48 ] . إن الله يغفر ما دون الشرك بالله ، فالشرك بالله قمة الخيانة العظمى وهذا لا غفران فيه وبعد ذلك يغفر لمن يشاء . ويقول الحق في آية أخرى : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . فهناك بعض من الناس يقولون : إن الله قال : إنه لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، حتى إنهم قالوا : إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الآية التي قال فيها الحق : " إن الله يغفر الذنوب جميعاً " قال : " إلا الشرك " وذلك حتى لا تصطدم هذه الآية من الآية الاخرى . والواقع أنه حين يدقق أولو الألباب فلن نجد اصطداماً ، لأن الذين أسرفوا على أنفسهم . هم من عباد الله الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحداً ، ولكنهم زلُّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلاء يقال عنهم : إنهم مذنبون لأنهم مؤمنون بالله معترفون بالذي أنزله ، أما المشرك فلم يعترف بالله ولا بما شرع وقنن من أحكام ، فما هو عليه لا يسمى ذنباً وإنما هو كفر وشرك . فلا تعارض ولا تصادم في آيات الرحمن . وعندما يقول الحق : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [ آل عمران : 11 ] . فهذا القول الحكيم مُتوازن ومُتّسِق ، فالذنب يأتي بعد النص ، والعقاب من بعد ذلك . ويقول الحق آمراً رسوله ببلاغ الكافرين : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ … } .