Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 15-15)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وحين تسمع كلمة " أؤخبركم " فما نسمعه بعد ذلك كلام عادي ، أما عندما نسمع " أؤنبئكم " فما نسمعه بعدها هو خبر هائل لا يقال إلا في الأحداث العظام ، فلا يقول أحد لآخر : سأنبئك بأنك ستأكل كذا وكذا في الغداء ، ولكن يقال " أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى " ، هذا في المستوى البشري فما بالنا بالله الخالق الأعلى ، ولذلك يقول الله الحق : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ } [ النبأ : 1 - 2 ] . إنه الأمر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها ، فحين يقول الحق : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } [ آل عمران : 15 ] فمعنى ذلك أن الله يخبرنا بخير من هذه الأشياء ، ومن ذلك نعرف أن الله قد جعل هذه الأشياء مقياساً ، لماذا ؟ لأنه مقياس محس ، وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ } [ آل عمران : 15 ] والمؤمن هو من ينظر بثقة إلى كلمة " عند ربهم " أي الرب المتولي التربية والذي يتعهد المُرَبَّى حتى يبلغه درجة الكمال المطلوب منه . والعندية هنا هي عند الرب الأعلى . فماذا أعد المربي الأعلى للمتقين ؟ لقد أعد لهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [ آل عمران : 15 ] ولنر الخيرية في هذه الجنات ، وهي تقابل في الدنيا الحرث والزرع ، وقد قلنا : إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفاً له بـ " الحرث " لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة وعملاً . أما في الآخرة فالجنات جاهزة لا تتطلب من المؤمن حركة أو تعباً ، ولا يقف الأمر عند ذلك ، بل إن هذه الجنات تجري من تحتها الأنهار وفيها للإنسان المؤمن ما وعده الله به : { خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ آل عمران : 15 ] إنه الخلود الذي لا يفنى ، ولا يترك الإنسان ولا يترك هو الإنسانِ . والأزواج المطهرة هي وعد من الله للمؤمنين ، ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر ، إما خَلْقاً تكوينياً ، وإمَّا خُلُقاً ، فهناك وقت لا يحب الرجل أن يقرب فيه المرأة ، وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره الإنسان جمالها . لذلك فالرجل قد ينخدع بالمظهر الخارجي للمرأة في الدنيا ، وقد يقع الإنسان في هوى واحدة فيجد فيها خصلة تجعله يكرهها ، أما في الآخرة فالأمر مختلف ، إنها " أزواج مطهرة " أي مطهرة من كل عيب يعيب نساء الدنيا ، فيأخذ المؤمن جمالها ، ولا يوجد فيها شرور الدنيا ، فقد طهرها الله منها . " أزواج مطهرة " من الذي طهرها ؟ إنه هو الله - سبحانه - طهرها خَلْقاً وَخُلُقاً . فالرجل في الدنيا قد يهوى امرأة ، وتستمر نضارتها خمسة عشر عاماً تستميله وتجذبه ، ثم تبدأ التجاعيد والترهل والتنافر . أما في الآخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء ، وتظل على نضارتها وجمالها إلى الأبد ، أليس هذا تصعيداً للخير ؟ ونلاحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين : الأمر الأول : هو جنات تجري من تحتها الأنهار ، ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا . والأمر الآخر : هو الأزواج المطهرة ، ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضاً ، ولم يورد الحق أي شيء عن بقية الأشياء ، فأين القناطير المقنطرة من الذهب ؟ وأين الخيل ؟ وأين الأنعام وأين البنون ؟ إننا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل الأمرين المزينين ، واحداً يستهل به الآية ، والأمر الآخر يأتي في آخر الآية ، ولنقرأ الآية التي فيها التزيين : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [ آل عمران : 15 ] . إن البداية هي النساء ، ذلك هو القوس الأول ، والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني ، وبين القوسين بقية الأشياء المزينة ، وقد أعطانا الله عوض القوسين وأوضح لنا إنهما هما الخير الْمُصَعَّد ، ولم يورد بقية الأشياء المزينة ، وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به انتُفِعَ ، أي أن كل ما ينتفع به الإنسان رزق ، الخُلُق الطيب رزق سماع العلم رزق ، أدب الإنسان رزق ، حلم الإنسان رزق ، صدق الإنسان رزق ، لكن الرزق يأتي مرة مباشراً بحيث تنتفع به مباشرة ، ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه لا ينفع مباشرة ، بل قد يكون سبباً ووسيلة لما ينفع مباشرة . مثال ذلك الخبز ، إنه رزق مباشر ، والنقود هي رزق ، لكنها رزق غير مباشر لأن الإنسان قد يكون جائعاً وعنده جبل من ذهب ، فلو قال واحد لهذا الإنسان : خذ رغيفاً مقابل جبل الذهب . سيعطي الإنسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف لأن الإنسان لا يأكل الذهب ، وكذلك كوب الماء بالنسبة للعطشان . إذن فهناك رزق لا يطلب لذاته ، ولكن يطلبه الإنسان لأنه وسيلة لغيره - فالوسيلة لغيره أنت لن تحتاج إليها في الآخرة لأنك ستعيش ببدل الأسباب بقول الحق : " كن " فالإنسان لن يحتاج في الجنة إلى مال . أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة لأن كل ما تشتهيه النفس ستجده ، ولن تحتاج في الآخرة إلى خيل مسومة لأنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها . وكل ما لا تحتاج إليه في الآخرة من أشياء أعطاها لك الله في الدنيا لتسعى بها في الأسباب ، ولم يورده الله في قوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 15 ] لم يوردها في النص الكريم ، لأن عطاء الله في الآخرة بالرزق المباشر ، أما الأشياء التي يسعى بها الإنسان إلى الرزق المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الآخرة ، فنحن نحب المال ، لماذا ؟ لأنه يحقق لنا شراء الأشياء ، والخيل المسومة نحبها لأنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل الله . والأنعام لتحقق لنا المتعة . أما الجنة في الآخرة فالمؤمن يجد فيها كل ما تشتهيه الأنفس ، وكل ما يخطر ببال من يرزقه الله الجنة سوف يجده فالوسائط لا لزوم لها . لذلك تكلم الحق عن الأشياء المباشرة ، فأورد لنا ذكر الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، وذكر لنا الأزواج المطهرة . وعندما نتأمل قول الحق : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } [ آل عمران : 15 ] قد يقول قائل : ألم يكن من المنطق أن يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به ، بدلاً من أن يسألنا : أيخبرنا بهذا الخير ، أم لا ؟ ونقول : أنت لم تلتفت إلى التشويق بالأسلوب الجميل ، وحنان الله على خلقه . إنه سبحانه وتعالى يقول لنا : ألا تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الأشياء التي تسيركم في الدنيا . فكأن الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه . ولم ينتظر الحق أن نقول له : قل لنا يارب . لا ، إنه يقول لنا دون طلب منا ، ويقال عن هذا الأسلوب في اللغة إنه " استفهام للتقرير " ، فالإنسان حين يسمع : { أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } [ آل عمران : 15 ] فالذهن ينشغل ، فإن لم يسمع النبأ ، فلسوف يظل الذهن مشغولاً بالنبأ ، ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن . ويأتي النبأ { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا } [ آل عمران : 15 ] ، فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث ، ألا يكون من المناسب فيها أن يتقي الإنسان ربه في مجالها ؟ إن التقوى لله في هذه الأشياء واجبة ، ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن يجعلوا الحياة زهداً وانحساراً عن الحركة ، وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلاة والصوم ، وأن نترك كل شيء . لهؤلاء نقول : لا إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى لأننا عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل الإنسان بينه وبين النار حجاباً ، وأن تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية . فإذا ما أخذت نعم الله لتصرفها في ضوء منهج الله فهذا هو حسن استخدام النعم . وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق : " اتقوا الله " وتأتي مرة أخرى " اتقوا النار " فهما ملتقيان فاتقاء النار حتى لا يصاب الإنسان بأذى ، وعندما يتقي الإنسان الله فهو يتقي غضب الله لأن غضب الله يورد العذاب ، والعذاب من جنود النار . إذن فالذين يتقون الله لا يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها ، ولكن للطمع فيما هو أعلى منها ، إنه الطمع في النعيم الأخروي الدائم . ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك : أنكم لن تتمتعوا في الآخرة لضرورة الحاجة للمتعة ، بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها ، إن الأمر لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم - أيها المؤمنون - تحبون فقط أن تروا المنعم ، فما دام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما يشتهي بل إنه لا يشتهي شيئاً حتى يأتيه ، ويستمتع على قدر عطاء الله وقدراته . وإذا لم يشته الإنسان ثماراً في الجنة أو نساء ، ويصبح مشغولاً برؤية ربه فإن مكانه جنة من الجنان اسمها " عليّون " و " عليّون " هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة ، ليس فيها الا أن تلقى الله . إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة ، بل إن الإنسان سيكون له الخلود فيها فالذي يحتاج إليه الإنسان هو رضوان من الله . إن رضواناً من الله أكبر من كل شيء . ولقد نبأنا الله بما في الجنات ، ونبأنا بالخير من كل ذلك . لقد نبأنا الله بأن رضوانه الأكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه . وهذا ما يقول الله . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية . ويخبرنا الحق من بعد ذلك : { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 15 ] أي أن الله سيعطي كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه ، فمن أطاع الله رغبة في النعيم بالجنة يأخذ جنة الله ، ومن أطاع الله لأن ذات الله أهل لأن تطاع فإن الله يعطيه متعة ولذة النظر إليه - سبحانه - تقول رابعة العدوية في هذا المعنى : @ كلهم يعبدون من خوف النار ويرون النجاة حظا جزيلاً إننّي لست مثلهم ولهذا لست أبغي بمن أحب بديلاً @@ وقالت أيضاً : اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فأدخلني فيها ، وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها ، إنما أعبدك لأنك تستحق أن تُعبد . إذن فـ { ٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 15 ] أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة فالذي أحب ما عند الله من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها الله عليه . أما الذي أحب الله وإن سلب منه النعمة ، فإن الله يعطيه العطاء الأوفى ، وذلك هو مجال مباهاة الله لملائكته … ومن أقوى دلائل الإيمان وكماله … إيثار محبة الله ورسوله على كل شيء في الوجود . عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث من كن فيه وجد بهم حلاوة الإيمان : مَنْ كان الله ورسوله أَحَبَّ إليه مما سواهما ، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقْذَفَ في النار " إن هناك العبد الذي يحب الله لذاته لأن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد ، فذات الله تستحق العبادة لأنه الوهاب ، الذي نظم لنا هذا الكون الجميل . إذن فقول الحق : { وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [ آل عمران : 15 ] يعني أن الله يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه ، وعلى مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء ، فمن عبد الله للنعمة أعطاه الله النعمة المرجوة في الجنة ليأخذها ، وأطاع الله لأنه أهل لأن يطاع وإن أخذت - بضم الألف وكسر الخاء - النعمة منه فإن الله يعطيه مكاناً في عليين . ولذلك قيل : إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل . لماذا ؟ لأن ذلك دليل صدق المحبة . والإنسان عادة يحب من يحسن إليه ، ولا يحب من تأتي منه الإساءة إلا إن كانت له منزلة عالية كبيرة . إنه مطمئن إلى حكمته ، إنه ابتلاه - وهو يعلم صبره - ليعطيه ثواباً جزيلاً وأجراً كبيراً ، والحق يقول : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] . لقد قال : " فمن كان يرجوا لقاء ربه " ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب ألا تشغلنا النعمة - الجنة - عن المنعم وهو الله سبحانه وتعالى ، وإذا كان الحق قد طلب منا ألا نشرك بعبادة ربنا أحداً فلنعلم أن الجنة أَحَدٌ . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا … } .