Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 17-17)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهذه كلها صفات للذين اتقوا الله ، وأعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، والأزواج المطهرة ، ورضوان من الله أكبر ، وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل الله ، ومستغفرون بالأسحار . وصابرون على ماذا ؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف الله ، لأننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم أن فيه كلفة ومشقة والتكاليف الشرعية فيها مشقة لأنها قيدت حركة العبد . لقد خلقك الحق خلقاً صالحاً لأن تفعل كذا أو لا تفعل . فساعة يقول لك : افعل … فإنه قد سد عليك باب " لا تفعل " وساعة يقول لك الحق : لا تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب " افعل " ، وهكذا يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الاختيار فيه مشقة ، فإذا جاء أمر الله بـ " افعل " فقد يكون الفعل في ذاته شاقاً ، فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة " افعل " فأنت صابر ، لأنك صبرت على الطاعة … وقد تصبر على المعصية ، عندما يلح عليك شيء فيه غضب الله فترفض أن ترتكب الذنب ، فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب . إذن ففي " افعل " صبر على مشقتها ، وفي " لا تفعل " صبر عنها ، فالصابرون لهم اتجاهان اثنان ، لأن التكليف إما أن يكون بافعل ، وإما أن يكون بلا تفعل . فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي المشقة … وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة … وعندما يأتي التكليف بـ " لا تفعل " كأمر الحق بعدم شرب الخمر ، أو " لا تسرق " فأنت قد صبرت عنها … إذن فـ " افعل " ولا " تفعل " قد استوعبت نَوْعَيْ التكليف ، وبقيت بعد ذلك أحداث لا تدخل في نطاق افعل ولا تفعل ، وهي ما ينزل عليك نزولاً قدرياً بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية . فساعة أن يطلب منك أن تفعل ، أي إنه قد خلقك صالحاً ألا تفعل كما قلنا من قبل . إلاّ إن كنت مجبراً على الفعل فقط . وكذلك إذا قال لك الحق : " لا تفعل " . والشيء القدري الذي لا صلاحية فيه للاختيار ماذا يفعل فيه المؤمن ؟ إنه يصبر على الآلآم والمتاعب لأنه آمن بالله ربا ، والرب هو الذي يتولى تربية المربى لبلوغه حد الكمال المنشود له ، فإذا جاء لك الحق بأمر لا خيار لك فيه ، كالمرض أو الكوارث الطارئة ، كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة ، فكل ذلك هي أمور لا دخل لـ " افعل " ولا " تفعل " فيها . وهناك يكون الصبر على مثل هذه الأمور هو إيمان بحكمة من أجراها عليك . لأن الذي أجراها رب ، وهو الذي خلقني فأنا صنعته . وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا . فإذا ما جاء أمر على الإنسان بدون اختيار منه ، فالذي أجراه له فيه حكمة فإن صبر الإنسان على هذه الآلام فإنه يدخل في باب الصابرين . إذن ، فالصابرون أنواع هم : صابر على الطاعة ومشاقها ، صابر على المعاصي ومغرياتها ، صابر على الأحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه . وإذا رأيت إنساناً قد صبر على أمر الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على الأقدار النازلة به ، فاعرف حبه لربه ورضاه عنه . ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول الله فيه : " الصابرين " و " الصادقين " . والصدق كما نعلم يقابله الكذب ، والصدق كما نعرف حقيقته : يأتي حين توافق النسبة الكلامية التي يتكلم بها الإنسان ، النسبة الأخرى الخارجية الواقعة في الكون . فإن قلت : " حصل كذا وكذا " فتلك نسبة كلامية صدرت من متكلم ، فإن وافقها الواقع بأنه حصل كذا وكذا فعلاً يكون المتكلم صادقاً . وإن لم يكن الواقع موافقاً لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم كاذباً . لماذا ؟ لأن كلام المتكلم العاقل لا بد له من نسب ثلاث : الأولى وهي النسبة الذهنية : فقبل أن أتكلم أعرض الأمر على ذهني ، وذهني هو الذي يعطي الإشارة للساني ليتكلم ، هذه هي النسبة الأولى واسمها " نسبة الذهن " . وقد يعن لي أن تأتي النسبة الذهنية ثم أعدل عنها فلا أتكلم ، فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدَت ، والنسبة الكلامية لم توجد . وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلامية . ونأتي بعد النسبة الكلامية لنرى : هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع ؟ فإن كان قد وقع ، يكون الكلام مني صدقاً . وإن لم يكن قد وقع ، وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به . فإننا نقول : " هذا كلام كذب " إذن : فالصدق : هو أن تطابق النسبة الكلامية الواقع . والكذب : هو ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع وكثيراً ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضاً في بعض الأساليب . مثال ذلك ، حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعالى : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] . تلك نسبة كلامية صدرت منهم ، فهل هي مطابقة للواقع أم هي مخالفة له ؟ إنها مطابقة للواقع . ويؤكد الحق ذلك بقوله : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } [ المنافقون : 1 ] . وبعد ذلك يقول الحق سبحانة : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] . ففيم كذب المنافقون ؟ هل كذبوا في قولهم : " إنك لرسول الله " ؟ لا . إن الحق لم يكذبهم في قولهم : " إنك لرسول الله " لأن الله قد أيد هذه الحقيقة بقوله : " والله يعلم إنك لرسوله " . ولكن كذبهم الله فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا : " نشهد إنك لرسول الله " . لقد كذبهم الله في شهادتهم ، لا في المشهود به ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الله ، إن الله يعلم أن محمداً رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين ، لكن الكذب كان في شهادتهم هم . إن كلام المنافقين مردود من الله . لماذا ؟ لأن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه . وقولهم : شهادة لا توافق قلوبهم وتعني كذبهم . إذن ، فالتكذيب هو لشهادتهم ، فلو قالوا : " إنك لرسول الله " دون " نشهد " لكان قولهم : قضية " سليمة " . ولذلك كان تكذيب الله لشهادتهم ، ومن هنا ندرك السر في قول الله : " والله يعلم إنك لرسوله " . إن الحق يؤكد الأمر المشهود به وهو بعث محمد رسولاً من عند الحق ، وبعد ذلك يأتي لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم : " نشهد " . فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع . والصدق - كما قلنا من قبل - حق ، والحق لا يتعدد ، وضربت من قبل المثل بأن الإنسان الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه ، وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلامه أبداً ، مهما تكرر القول أو عدد مرات الشهادة . لكن إن كانت الواقعة كذباً ، فالراوي تختلط عليه أكاذيبه ، فيروي الواقعة بألوان متعددة لا اتساق فيها ، وقد ينسى الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الأولى ، وهكذا ينكشف سر الكذب . لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق ، هو الذي يحكي ، وهو الذي لا تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق . فعندما نقول : " إن زيدا مجتهد " ، فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أولاً ، ثم يأتي في ذهن من رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده ، ثم يخبر بالكلام عن اجتهاد زيد . إن الأمر الخارج وهو اجتهاد زيد قد حدث أولاً ، وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية ، وبعد ذلك تأتي النسبة الكلامية . ولكن الإنشاء وهو ضد الخبر ، هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمراً لا واقع له ، كأن نقول لواحد : اجتهد . إننا قبل أن نقول لإنسان ما : " اجتهد " فمعنى ذلك أن الاجتهاد كان أمراً في ذهن القائل ، وعندما ينطقها تصبح " نسبة كلامية " . وبعد ذلك يحدث الواقع ، بعد النسبة الذهنية ، والنسبة كلامية ، وهذا هو الإنشاء . إن الإنشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلامية . والصادقون هم الذين أراد الله أن يمدحهم ، لماذا ؟ وأين هو مجال صدقهم ؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج الله ، لأنهم حين قالوا : " لا إله إلا الله " ، وآمنوا به ، فهم قد التزموا بكل مطلوبات الإيمان قدر الطاقة . ومعنى " لا إله إلا الله " أي لا معبود إلا الله . ومعنى لا معبود إلا الله أي أنه لا طاعة إلا لله . والطاعة - كما نعرف - هي امتثال أمر ، وامتثال نهي . إذن فمجال " لا إله إلا الله " يشمل أنه لا معبود بحق إلا الله ، ولا مُطاع في تكليفه إلاَّ الله ، ولا امتثال لأمر أو لنهي إلاَّ للأمر القادم من الله فإن امتثال إنسان الأمر من الله بعد قوله : " لا إله إلا الله " كان هذا الإنسان صادقاً في قوله : " لا إله إلا الله " . وهذا هو صدق القمة ، أن تكون كل تصرفات قائل : " لا إله إلا الله " متطابقة مع هذا القول . والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج الله . هذا هو الإنسان الصادق . أما الذي يقول بلسانه : " لا إله إلا الله ، لا معبود بحق إلا الله " ثم يخالف ربه بعصيانه له ، لنا أن نقول له : أنت كاذب في قولك " لا إله إلا الله " لماذا ؟ لأنه لم يطابق النسبة التي قالها . إن هذا الإنسان إذا آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له : أنت منافق ، لماذا ؟ لأننا عندما تكلمنا في أول سورة البقرة عن المنافقين قلنا : إن المؤمن حين يؤمن بالله يكون صادقاً مع نفسه لأن قال : " لا إله إلا الله " وهو مؤمن بها ، والكافر حين ينكر الألوهية يكون صادقاً مع نفسه أيضاً . أما المنافق فهو لا يصدق مع نفسه ، ولا يصدق مع الناس ، إنه مذبذب بين هؤلاء وهؤلاء . إن المنافق بلا صدق مع النفس ، ولذلك يصفهم الحق : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] . إن الكافر له صدق مع النفس فهو لا يقول : " لا إله إلا الله " لأنه لا يعتقدها . أما المنافق فقد قال : " لا إله إلا الله " وهي غير مطابقة لسلوكه ، لذلك يكون غير صادق مع نفسه ، وغير صادق مع ربه . إذن ، فقول الحق : " الصادقين " مقصود به هؤلاء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم صادرين عن منهج الله ، فلا يؤمنون بقضية ، ويفعلون أخرى . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 3 ] . أي أنه حين يكون القول شيئاً مختلفاً عن الفعل ، لا تتطابق النسبة . فالصادقون هم الذين يصدقون في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسلة : " لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله " أي لا مطاع في أمر أو نهي إلا الله ، فإن جئت وطاوعت أحداً في غير ما شرع الله يحق للمؤمنين أن يقولوا لك : أنت كاذب في قولك : " لا إله إلا الله " . " فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . هذا هو سمو الإيمان عند المؤمن ، إن المؤمن لا يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته لأن المؤمن في كل تصرفاته خاضع لإيمانه بأنه لا إله إلا الله . ثم يقول الحق : " والقانتين " والقانت : هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة . والقانت صادق مع نفسه ، لماذا ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفاً ، فقد يكلهم بشيء يعز على أفهامهم أن تدرك حكمته . وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف لأن الذي أمرهم به إله قادر ، فهم يثقون في حكمته فأدُّوا الأمر الصادر إليهم لأنهم خاضعون لحكمة الله . إنهم منفذون للأمر القادم من الآمر لا لعلة الأمر . وبعد أن يصنعوا ذلك يريهم الله نورانية هذا الحكم بأن يعطيهم فرقاناً في أنفسهم : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] . فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان : إن الله قد أراد لي بهذا الأمر أن أدرك حلاوة طاعة هذا الأمر ، لذلك قال أحد العارفين بالله : إن كنت تريد أن تعلم عن الله حكماً كلفك الله به دون أن تعلم علته فاتق الله فيه ، وحين تتقي الله في هذا الأمر ، فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك ، ولذلك يقول الله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 282 ] . فكأنك قبل التقوى لم يعلمك الله ، أما بعد التقوى فإن الله يعلمك ، فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس إشارة في نورانية نفسك ، وهكذا هو الفارق بين الأمر من المساوى ، والأمر من الأعلى . وعندما ترتقي كلمة " الأعلى " ، فإنها لا تنطبق إلا على الأعلى المطلق وهو الله ، إنه الأعلى في الحكمة ، والأعلى في المنزلة ، والأعلى في المكانة ، والأعلى في الربوبية . إذن ، فالإنسان لا يطلب علة حكم إلا من مساو له ، فإن قال لك أحد من البشر : افعل الشيء الفلاني . فإنك تسأله : لماذا ؟ فإن أقنعك ، فأنت تقوم بالفعل . وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل لأن المساوى لك قد أقنعك بالحكمة لا بالطاعة له . ولكن عندما يصدر الأمر من الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى ، فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ الأمر فوراً عشقاً في طاعته . والمثال الذي أضربه للتقريب لا للتشبيه ، فالله الأعلى ، وهو منزه عن كل شبيه ، إن الأب يقول للابن في حياتنا اليومية : إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي الدراجة . فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية ؟ لا ، ليست هذه هي العلة ، إن العلة عند الأب هي أن يتعلم الابن ويتفوق في حياته ، ويكبر ، وعند ذلك يدرك العلة ، ويقول لنفسه : لقد كان أبي على حق . إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر ، فكيف لنا بطاعة الأمر الصادر من الله ؟ إن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف تكليفاً ، فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة . والعبد المؤمن يعرف أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للأمر الأعلى . إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن ، ولا يساويه أحد ، إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن أولاً بأن الله هو الإله الواحد - سبحانه - له مطلق الحكمة ، وله القوة وله كل شيء في الكون ، وسبق أن ضربت المثل - ولله المثل الأعلى . إن الإنسان قد يمرض ، وصحة الإنسان أثمن شيء عنده ، فيفكر في الذهاب إلى طبيب ، ويقول له : إنني أتعب من معدتي ، أو من قلبي أو من أمعائي . إنه يحدد ما يشكو منه . وعقل الإنسان هو الذي هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة ، وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوباً فيها الأدوية اللازمة . إن الإنسان يتناول كل دواء من هذه الأدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل دواء لأنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيميائية ، فإن سأل أي إنسان ذلك المريض : لماذا تأخذ هذا الدواء ؟ فيجيب المريض : لأن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب المتخصص بعلاج المعدة ، أو القلب ، أو الأمعاء أو أي عضو يشكو منه الإنسان . والطبيب قد يخطىء ، إنما حكم الله لا يخطئ أبداً ، فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماماً . إن الحكمة تكون عند الحق سبحانه وتعالى ، وعندما ينفذ المؤمن مطلوب الله فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية في نفسه . وكلمة " قانتين " كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت ، والقنوت هو عباده مع خضوع ، وخشوع واستدامة . لماذا الخضوع ، والخشوع ؟ لأن الله جل وعلا لم يشرع العبادة لينفذها الإنسان ، وينقذ نفسه من عذاب النار ، لا إننا نرى كثيرا من الناس - إذا ما لاحظنا واقع الحياة - إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحاً في الميعاد المحدد ، وأن ينصرفوا في الميعاد المحدد ، ولا يسمح لهم بالانشغال بغير العمل ، فلا يشربون الشاي ، ولا يقرأون الصحف ولا يقابلون الأصدقاء ، وغير ذلك من الأعمال . ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس " إنه شديد المراس ، ولذلك فليس له عندي إلا أن أحضر في الثامنة إلا خمس دقائق ، ولن أنصرف إلا في الثانية وخمس دقائق ، ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه " . إن هذا الموظف يفعل ذلك بجبروت واستعلاء على رئيسه حتى لا يسمح له بنقد أو تجريح ، فهذا الموظف ممتثل ولكن باستعلاء . إنها طاعة بلا حب ، ولكنها باستعلاء . وقد يحاول عبد أن يقول : ماذا يطلب الله مني ؟ يطلب مني الصلاة والزكاة وإقامة العبادات ؟ سوف أفعل ذلك . لمثل هذا العبد نقول : لا ، إن الله يطلب العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان ، لأن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها الله على العبد . إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف الإيمانية ، حتى يكون الإنسان سوياً وله قيمة في الحياة . إن معنى " قانت " هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع ، وباطمئنان ، وباستدامة . لماذا ؟ لأن الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده لله فلم يجد الله أهلاً للود . أما العبد الطائع فهو لا ينصرف عن العبادة ، لأنه ذاق حلاوة استدامة العبادة لله ، وما دام قد أدرك حلاوة العبادة فهو يقبل عليها بخشوع ، واطمئنان ، واستدامة ، ويدخل في دائرة القانتين . وبعد " القانتين " يقول الله سبحانه : " والمنفقين " وكلمة أنفق و " نفق " ، مأخوذة من كلمة " نفق الحمار " أي مات ، و " نفقت السوق " أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء . و " نفقة " مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن الإنسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه ، فلا يتذكر أنه أنفق على فلان كذا ، وعلى علان كذا ، أي يعلم يقيناً أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه عليهم وليس له إلا أجر إيصاله إليهم فلا مَنّ ، ولا إذلال . إن الله يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال فلا يذكره ولا يَمُنّ به على أحد . " والنفقة " ، تقتضي وجود مُنْفِق ، ومنفَقاً عليه ، ومنفَقاً به ، المنفق كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ ، والمنفَق عليه هو الفقير ، والمنفَق به هو الخيرات . ومن أين تأتي هذه الخيرات ؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة ، وحركة المتحرك في الحياة تقتضي قدرة ، فإذا كان الإنسان عاجزاً ، ولا يجد القدرة على الحركة ، فمن أين يعيش ، إن الله لا بد يضمن له في حركة القادر ما يعوله . لقد جعل الله القدرة عرضاً من أعراض الحياة ، فالقادر اليوم قد يصير عاجزاً غداً . وما دامت القدرة عرضاً من أعراض الحياة ، فالقادر الآن عندما يسمع الأمر من الله بأن ينفق على غير القادر ، فلابد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة ، والقادر الآن من الأغيار ، لذلك فهو عرضة لأن يصير غداً من العاجزين ، ويقول القادر لنفسه : " عندما أصبح عاجزاً سوف أجد من يعطيني " . أليس ذلك هو التأمين الحق ؟ إنه تأمين المؤمن . إن المؤمن يعطي عند قدرته ، وذلك حتى يجنبه الله مشقة السؤال إن جاءت الأغيار ، لأن الأغيار إن جاءت سوف يجد من يعطيه . إننا يجب أن نلحظ في الحكم ، لا ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم ، ولكن ساعة أن يؤدي الغير إليك مطلوب الحكم . فالذي يطلب منه أن ينفق ، عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجراً ، ولنا أن نسأله : لو كنت عاجزاً ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنٍّ أو أذى ؟ إن هذا هو التأمين الحق ، لأن التأمين في يد الله ، وما دامت الأغيار عرضة لأن يصير القادر عاجزاً ويصير العاجز قادراً ، فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فلا يتذكر وجه من أنفق عليه ، ولا يخبر أحداً بما أنفق . عد الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله فقال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " . وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ ، إما أن يأخذ إن طرأت له الأغيار في الدنيا ، وإما أن يأخذ من يد الله في الآخرة أضعافاً مضاعفة . إذن ، فالمنفق هو الذي يُؤَمِّن لغير القادر حركته في الحياة ضماناً لنفسه حين لا يقدر أو استثماراً مضاعفاً عند الله ، وهؤلاء المنفقون الذين يَسَعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم ، يظهرون حكمة الله في الوجود ، لأن الله ما دام قد خلقنا ، وفينا القادر ، وفينا العاجز ، فقد أراد الله لنا أن نعرف أن القدرة ليست لازمة في الخلق . فإن قدرت الآن فقد تُسلب - بضم التاء - منك هذه القدرة ، وما دامت القدرة يتم سلبها ، فلابد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائماً ، وذلك حتى يعرف الواحد منا أنه لم ينفلت من ربه ، خلقنا قادرين وانتهت المسألة . لا . إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء . وما دامت الأغيار تذهب وتجيء فلا بد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر الأعلى . وقلنا سابقاً : إن الله جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا ، والذين أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وذلك حتى يحمي الله الضعيف الذي خلقه الله لحكمة في الوجود . إن الإنفاق ليس أخذاً من العبد ، وإنما هو مناولة ، هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك ، إلا بحركتك في الحياة . وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقلا يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري ، ومادة يتم الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها أو آلة يتم الصنع بها ، ولا شيء للإنسان من هذا في الكون . إن المخ الذي يدبر هو عطاء من الله ، والطاقة التي تنفذ هي عطاء من الله . ونحن نرى في الحياة إنساناً قد نزع الله عنه المخ الذي يفكر ويدبر ، ونجد إنساناً آخر قد نزع الله منه الطاقة التي تنفذ ، فقد يمنع الله عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها . إذن ، فلا شيء من هذه الأشياء ذاتي للإنسان إنها كلها عطاء من الله . فليعمل المؤمن مضاربا عند الله ، وليعط المؤمن للعاجز حق الله . إن الله لا يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده الله لأخيك العاجز ، وسوف يطلب الله هذا الحق لك إذا عنَّت لك حاجة بسبب الأغيار . هكذا تكون " المنفقين " صفة من صفات الذين اتقوا ربهم . والحق سبحانه وتعالى قد جعل في الصبر ، صلابة اليقين الإيماني في النفس البشرية . وفي الصدق انسجاماً مع واقع لا إله إلا الله ، وفي النفقة حماية العاجز الذي لا يقدر . وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول : { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] إننا يجب أن نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الأوصاف الأخرى في النفس البشرية . البداية هي إقرارهم بالإيمان ، ودعاؤهم الحق - سبحانه - أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار ، وصبروا ، وصدقوا ، وقنتوا في العبادة ، وأنفقوا في سبيل الله ، إن كل هذه الأوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون أيضاً في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل ، ويستغفرون الله . إما أن يستغفر العبد لأنه قد فرطت منه هفوة في ذنب ، وإما أن يستغفر لأنه لم يَزد فيما يفعله من أمور الطاعة . وكلمة " بالأسحار " توضح لنا لحظات من اليوم يكون الإنسان فيها محل الكسل والراحة ، إن الذي سوف يصحو في السحر لا بد أن يكون قد اكتفى من الراحة ، ولم يكن قد أخذ منه كد الحياة كل النهار ، ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليلا . وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا . إن كد الحياة - إن أخذ - يأخذ نهاراً ، وبعد ذلك يأخذنا لهو الحياة ليلا ، مما نشاهده من لهو الحديث ، ولهو السهرات ، وبعد ذلك يأتي الإنسان لينام متأخراً ، فكيف نطلب من هذا الإنسان أن يصحو في السحر ؟ إن الذي يصحو في السحر هو من أخذ حظه في الراحة ، فبعد أن جاء من كد العمل نام نوماً هادئاً ، ويصحو من بعد ذلك في السحر ليذكر ربه ، في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس ، لماذا ؟ لأن الحق سبحانه وتعالى في لحظة سكون الليل يوزع رحمته ، وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو الله ، ويستغفره فإنه يأخذ من رحمة الله النازلة . وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة الله النازلة في ذلك الوقت ، فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من رحمة الله . وإياك أن تقول : لو صحونا جميعاً في الأسحار لنفدت الرحمة والعطاء " لا " لأن الله قد قال : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [ النحل : 96 ] . إن قدرته جل وعلا تتسع لعطائنا جميعاً دون أن ينقص شيء من عنده . إن كل هذه الأشياء من التقوى ، والإقرار بالإيمان ، وطلب المغفرة للذنوب ، وطلب الوقاية من عذاب النار ، والصبر ، والصدق ، والقنوت ، والإنفاق في سبيل الله ، والاستغفار بالأسحار ، كل ذلك نتيجة للتقوى الأولى . إنها الثمرة من " لا إله إلا الله " . وما دامت هذه هي الثمرة من " لا إله إلا الله " فليعلم كل إنسان ، أن الله لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود ، بل اعلم أن الله قد شهد أنه لا إله إلا الله ، وكفى بالله شهيداً . لذلك يقول الحق : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ … } .