Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 185-185)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولاحظ أن كلمة " ذائقة " جاءت أيضاً هنا ، ونعرف أن هناك " قتلاً " وهناك " موتاً " ، فالموت معناه أعم وهو : انتهاء الحياة سواء أكان بنقض البنية مثل القتل ، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف ، ولذلك فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون : هذا المقتول لو لم يُقتل ، أكان يموت ؟ نقول : نعم لأن المقتول ميت بأجله ، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل ؟ لا . إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح ، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن يفارق الحياة بهذا العمل . إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل . ولأن الغالب في المقتولين أنهم شهداء ، والشهداء أحياء ، لكن الكل سيموت . يقول تعالى : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ … } [ الزمر : 68 ] . انظروا إلى دقة العبارة : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 185 ] أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا ، لأنكم إن كنتم ستأخذون على إيمانكم ثواباً في الدنيا فهذا زمن زائل ينتهي ، فثوابكم على الإيمان لابد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثواباً لا ينتهي . ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية حينما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار عهوداً ، قالوا : فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ لم يقل لهم صلى الله عليه وسلم ستنتصرون أو ستملكون الدنيا ، بل قال : " الجنة " قالوا : ابسط يدك ، فبسط يده فبايعوه ، فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا لقال له أي واحد فطن منهم : ما أهونها ، ولذلك عندما قال واحد لصاحبه : أنا أُحبك قدر الدنيا فقال له : وهل أنا تافه عندك لهذه الدرجة ؟ فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : إياكم أن تفهموا أن جزاء الإيمان يكون في الدنيا ، لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلاً كجزاء على الإيمان ، لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله ، فلا بد أن يكون الجزاء غير منتهٍ وهو الجنة ، فقال : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } [ آل عمران : 185 ] … وأخذ أهل اللمح من كلمة " توفون " أن هناك مقدمات لأن معنى " وفيته أجره " أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له ، نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان ، ويكفي إشراقة الإيمان في نفس المؤمن ، فالجواب لابد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه الآية فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة ، وما دام قد مات في معركة فهو لم ير انتصاراً ، ولم ير غنائم ولا أي شي ، فماذا يكون نصيبه ؟ إنه يأخذ نصيبه يوم القيامة " توفون " فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر ، بالغنائم ، بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر ، إنما الوفاء بكامل الأجر سيكون في الآخرة ، لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم القيامة ، وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون . ويقول الحق : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز } " وعندما تقول : زحزحت فلاناً ، معناها أنه كان متوقفاً برعب ، فكيف يحدث ذلك عند النار ؟ . نعرف أن النار سببها المعصية ، والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة ، ويأتي الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية ، فكذلك يكون الجزاء بالنار . إذن فالنار لها جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ … ولذلك يقول ربنا : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ … } [ الملك : 8 ] . النار تتميز من الغيظ على الكافرين . وما معنى تميز من الغيظ ؟ أما رأيت قِدْراً يفور ؟ ساعة يفور القدر فإن بعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عما في القدر ، وهذا " تميز " أي تفترق ، والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء كفقاقيع غليان القدر إنه يرغي ويزبد أي اشتد غضبه ، هذه الفقاقيع تحرق من يقف أمامها أو يلمسها ، وهي من شدة الفوران تميز بعضها وانفصل عن القدر ، كذلك النار ، ولماذا تميز من الغيظ ؟ إنها تميز من الغيظ من الكافرين لأنها أصلها مُسبِّحة حامدة شاكرة ، وبعد ذلك يقول لها الحق : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ … } [ ق : 30 ] وتقول { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] . وذلك مما يدل على أن كلمة : " تميز من الغيظ " حقيقة ولذلك يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النار لها جاذبية ، فالنار إنما كانت نتيجة المعصية في الدنيا ، والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك : " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها ، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من يدي " انظر إلى التشبيه الجميل - حين توقد ناراً في خلاء فأول مظهر هو أن ترى الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار ، ولذلك يقولون : رُبّ نفس عشقت مصرعها . لقد جاءت تلك الحشرات على أساس أنها جاءت للنور ، إننا نرى ذلك عندما نُشعِل موقداً في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى ، تلك الحشرات عشقت مصرعها ، إنها قد جاءت إلى النور ولكن النار أحرقتها ، كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه لأنه لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار . { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ } [ آل عمران : 185 ] أي أن النار لها جاذبية مثل جاذبية المعصية عندما تأخذ الإنسان ، ومجرد الزحزحة عن النار ، حتى وإن وقف بينهما لا في النار ولا في الجنة فهذا حسن ، فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة ؟ لقد زال منه عطب وأعطى صالحاً . وهذه حاجة حسنة ، وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر عليه ، لماذا ؟ حتى يرى المؤمن النار … وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً لنزل فيها ، فيقول : الحمد لله الذي نجاني من تلك النار . { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] والفوز هو النجاة مما تكره ، ولقاء ما تحب ، مجرد النجاة مما تكره نعمة ، وأن تذهب بعد النجاة مما تكره إلى نعمة ، فهذا فوز . ونلحظ في { زُحْزِحَ } أن أحداً غيره قد زحزحه . نعم لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان وهو الذي زحزحه عن النار أيضاً . ويذيل الحق الآية بقوله تعالى : { وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] . وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها " دنيا " ففي ذلك ما يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها " غير دنيا " وغير الدنيا هي " العليا " ، ولذلك يقول الحق في آية أخرى : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى قيام الساعة ، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله ، ولكن لكل فرد في الحياة دنيا ليس عمرها كذلك ، وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها . ومقدار حياته فيها لا يُعلم أهو لحظة أم يوم أم شهر أم قرن . وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصاً لكل عمر ، وحداً عاماً لكل الأعمار . والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع ، فهي على قدر إمكاناته . فإذا نظرنا إلى الدنيا بهذا المعيار فإن متاعها يعتبر قليلاً ، ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها ، فحتى لا يغتر عائش في الدنيا فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة يجب أن يقارن متعة أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها ، متعة على قدر إمكاناتك ومتعة على قدر سعة فضل الله لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور ممن غُرّ بالتافه القليل عن العظيم الجليل . والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع ، ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى ، إنه الخلود . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن ، وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم ، ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين يدخلون الإيمان ، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر ، فلو كان دائماً منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة لذلك كان لا بد أن يوضح لهم : أن هناك ابتلاءات . فالقضية الإيمانية أن تبتلوا ، وموقع البلاء في نفوسكم أو في أموالكم ، فقال : { لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ … } .