Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 184-184)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى إليه بشر سواه ، فيقول : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ … } [ الأنعام : 33 ] . فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] . أي هذا الأمر ليس خاصاً بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني ، الظالمون يجحدون وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هنا للتسلية ويعطيه الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } [ آل عمران : 184 ] . ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه . فإذا كان الجواب لم يأتِ فالشرط هو الذي يجعله يأتي ، وإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحل ؟ . الحق يوضح : إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك . أي أن " جواب الشرط " قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام ، أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول : إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط . وهنا نرد عليه قائلين : أقوله تعالى : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ … } [ آل عمران : 184 ] هو جواب الشرط … أم هو دليل الجواب ؟ لقد جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن كذبوك فلا تحزن ، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم ، إنها علة لجواب الشرط ، كأنه يقول : فإن كذبوك فلا تحزن . إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب ، إنما هو الحيثية للجواب { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ آل عمران : 184 ] … إلخ . وعندما نقول : " جاءني فلان بكذا " فقد يكون هو الذي أحضره ، وقد يكون هو مجرد صاحب لمن جاء به . ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه بمظروف إلى إنسان آخر ، فالموظف هو المصاحب للمظروف . إذن فالبينات جاءت من الله ، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيَّدين بالبينات كي تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله ، { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ آل عمران : 184 ] . أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على المراد . والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية ، وقد تكون المعجزات . ونعلم أن كل رسول من الرسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن منهجهم ، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر . " صحف إبراهيم " فيها المنهج لكنها ليست هي المعجزة فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة ، وموسى عليه السلام معجزته العصا وتنقلب حية ، وانفلاق البحر ، لكن كتاب منهجه هو " التوراة " ، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه " الإنجيل " ومعجزته العلاج وإحياء الموتى بإذن الله ، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن معجزته هي عين منهجه ، معجزته القرآن ، ومنهجه القرآن ، لماذا ؟ لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم ، ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم ، فلا بد أن تظل المعجزة مع المنهج كي تكون حُجة ، إذن فقول الحق سبحانه وتعالى : { جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ آل عمران : 184 ] : أي المعجزات الدالات على صدقهم . { وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } [ آل عمران : 184 ] أي الكتب التي جاءت بالمنهج ، فهم يحتاجون إلى أمرين اثنين : منهج ومعجزة . و " البينات " هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي واحد منهم ، ثم جاء " المنهج " في { ٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } [ آل عمران : 184 ] . ومعنى " الزِبْر " : الكتاب ، وما دام الشيء قد كُتب فقد " زبره " أي كَتَبَهُ ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر الكتابة ، و " الزَّبْرُ " تعني أيضاً الوعظ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف ، و " الزَّبْرُ " أيضاً تعني العقل لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة . والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات ، نقول لهم : افهموا معنى كلمة " العقل " ، معنى العقل هو التقييد ، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر دون دراسة عواقبه . والعقل من " عَقَلَ " أي ربط ، كي يقال هذا ، ولا يقال هذا ، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه . و " الزبر " أيضاً : تحجير البئر فعندما نحفر البئر ليخرج الماء ، لا نتركه . بل نصنع له حافة من الحجر ونبنيه من الداخل بالحجارة . كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية ، فهو يعني : المكتوبات ، والمكتوبات لها وصف ، إنّها منيرة ، وهذه الإنارة معناها أنها تبين للسالك عقبات الطريق وعراقيله ، كي لا يتعثر . إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويوضح له : لا تحزن إن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك ، والرسل جاءوا بالمنهج والمعجزة ، وبعد أن يعطي الله للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون ، وتربية المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن تواجهه الدعوة حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون . وبما سيفعلونه . ونحن نفعل ذلك في العالم المادي : إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا - مثلاً - ماذا نفعل ؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم كي نربّي فيه مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض . ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن دائماً . هذه القضية : إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود لأنهم سينتهون بالموت ، فالقضية معركتها موقوتة ، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه ، ولذلك يقول : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ … } .