Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 44-44)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقد قلنا من قبل : إن كلمة " نبأ " ، لا تأتي إلاّ في الخبر العظيم . والغيب هو ما غاب عن الحس . وهناك " غياب عن الحس " من الممكن أن يدركه مثلك . وهناك غياب عن الحس لا يدركه مثلك . وقلنا من قبل : إن حجب الغيب ثلاثة : مرة يكون الحجاب في الزمن ماضياً ، ومرة مستقبلاً ، ومرة ثالثة يكون الحجاب في المكان . لماذا ؟ لأن ظروف الأحداث زمان ومكان . فإذا أنبأني منبئ بخبر مضى زمنه فهذا اختراق لحجاب الزمن الماضي ، فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار ماضياً وإذا أخبرني به الآن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي ، وإذا قال لي عن أمر سيحدث بعد سنتين من الآن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل ، وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر لزمنك الآن نقول : هنا يوجد حجاب المكان ، فعندما أكون معكم الآن لا أعرف ما الحادث في مدينة أخرى غير التي نحن بها ، ورغم أن الزمن واحد . لذلك فعلينا أن نعرف ، أنه مرة يكون الحجاب حجاب زمان … أي قد يكون الزمن ماضياً ، أو يكون الزمن مستقبلاً ، وقد يكون حجاب مكان . فإذا كان الله ينبئ رسوله بهذا النبأ فوسائل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث لأن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلاثة أمور : مشاهدة أو سماع أو قراءة . والوسيلة الأولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ ، والنبأ الذي أخبر الله به رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما لا يقل عن ستة قرون . إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا النبأ لا تصلح ، لأن النبأ قد حدث في الماضي . قد يقول قائل : لعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأها ، أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس بقارئ ، فامتنعت هذه الوسيلة أيضاً ، وبإقرار خصومة صلى الله عليه وسلم أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم . إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النبأ إلا بالوحي ، لذلك قال الحق سبحانه : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] . وقلنا قديماً إن الوحي ، هو إعلام بخفاء لأن الإعلام العادي هو أن يقول إنسان لإنسان خبراً ما ، أو يقرأ الإنسان الخبر ، أما الإعلام بخفاء فاسمه " وحي " . والوحي يقتضي " موحِي " وهو الله ، " ومُوحَى إليه " وهو الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و " موحى به " وهو القرآن الكريم . وإذا نظرنا إلى الإعلام بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة . إن الله يوحي . لكن الموحي إليه يختلف . الله سبحانه وتعالى يوحي للأرض : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 1 - 5 ] . إنه إعلام بخفاء ، لأن أحداً منا لم يسمع الله وهو يوحي للأرض ، والحق سبحانه يوحي للنحل ، ويوحي للملائكة ، ويوحي للأنبياء ، وهناك وحي من غير الله ، كوحي الشياطين . { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الانعام : 121 ] . وهناك وحي من البشر للبشر : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 112 ] . لكن الوحي إذا أُطلق ، ينصرف إلى الوحي من الله إلى من اختاره لرسالة ، وما عدا ذلك من أنواع الوحي يسمونه " وحياً لغوياً " إنما الوحي الاصطلاحي وحي من الله لرسول ، إذن فوحي الله للأرض ليس وحياً اصطلاحياً ، ووحي الله للنحل ليس وحياً اصطلاحياً ، ووحي الله لأم موسى ليس وحياً اصطلاحياً ، ووحي الله للحواريين ليس وحياً اصطلاحياً ، إن الحق سبحانه يقول : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] . إن هذا لون من الوحي غير اصطلاحي ، بل هو وحي لغوي ، أي أعلمهم بخفاء . لكن الوحي الحقيقي أن يُعلم الله من اختاره لرسالة ، وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صلى الله عليه وسلم . يقول الحق : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] . هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي ، فلم يقرأه ، ولم يشاهده ، ونحن نعرف أن خصوم رسول الله شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم . وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن موجوداً مع قوم مريم حين ألقوا أقلامهم . والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به ، أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا اختلفوا على شيء . وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحاً ، ليعرفوا من يظفر بالشيء المختلف عليه ونسميها نحن القرعة ، والقرعة يقومون بإجرائها لإخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد ، وذلك حتى لا يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضلاً له على الآخرين ، ولذلك فنحن أيضاً نجري القرعة فنضع لكل واحد ورقة . إذن فلا هوى لأحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة ، وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر الله لأن الورقة لا هوى لها ، ولما اختلف قوم مريم على كفالتها ، واختصموا حول مَن الذي له الحق في أن يكفلها . هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة ، وأرادوا أن تكون قدرية ، ويكون القول فيها عن طريق قدح لا هوى له . وهذا القدح سيجري على وفق المقادير . أما " أقلامهم " فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها القرعة ، أو الأقلام التي كتبوا بها التوراة تبركاً . وتساءل البعض ، ما المقصود بقول الحق : " إذ يلقون أقلامهم " وأين تم إلقاء هذه الأقلام ؟ قيل : إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت الأقلام في البحر فمن الذي يتميز في ذلك ؟ قيل : إنه إذا ما أطل قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز ، أو إذا غرقت كل الأقلام وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو الفائز . ولا بد أنهم اتفقوا على علامة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم . { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] . وكلمة " إذ يختصمون " تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقاً إلى كفالة مريم ، لدرجة أن أمر كفالتها دخل في خصومة ، وحتى تنتهي الخصومة لجأوا إلى الاقتراع بالأقلام . وننتقل الآن إلى مرحلة أخرى .