Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 43-43)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فكأن ما تقدم من حيثيات الاصطفاء الأول ، والاصطفاء الثاني ، يستحق منها القنوت ، أي العبادة الخالصة الخاضعة الخاشعة . وقد يقول قائل : ولماذا يصطفى الله واحداً ، ليشيع اصطفاؤه في الناس ؟ لأن الاصطفاء من الحق لا بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الاختيارات غير المرضية ، والحق - سبحانه - يريده نموذجاً لا يقع منه إلا الخير ، والمثال الكامل على ذلك اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وجعله لا يفعل إلا السلوك الطيب من أول الأمر ، وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة الإيمانية في ثلاث وعشرين سنة هي مدة الرسالة المحمدية . والحق يقول لمريم على لسان الملائكة : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [ آل عمران : 43 ] إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة لربها ، وكلمة " لربك " تعني التربية ، فكأن الاصطفاءات هي من نعم الله عليك يا مريم ، وتستحق منك القنوت { وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] و " اسجدي " أي بَالِغِي في الخشوع ، والخضوع ، بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في الإنسان على الأرض ، لأن السجود هو أعلى مرتبة من الخضوع . لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع لله مع الناس ؟ لا ، إنه الأمر الحق يصدر لمريم { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ولا يعفيك من الركوع أنك فعلت الأمر الأعلى منه في الخضوع وهو السجود ، بل عليك أن تركعي مع الراكعين ، فلا يحق لك يا مريم أن تقولي : " لقد أمرني الله بأمر أعلى ولم أنفذ الأمر الأدنى " . إن الحق يأمرها أن تكون أيضاً في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } [ المدثر : 42 - 43 ] . إنهم كفار ، فكيف يصلون ؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار ، ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصلي ، واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بالله . وهنا يسأل سائل كريم : لماذا قال سبحانه وتعالى في خطابه لمريم : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ولم يقل الحق : " مع الراكعات " ؟ هذا هو السؤال . وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيداً بسيطاً إلى فلسفة الأسماء في وضعها على مسمياتها . إن الأسماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها . والمسميات مختلفة ، فمنها الجماد ، ومنها النبات ومنها الحيوان ، ومنها الأسماء التي تدل على عالم الغيب كالجن ، والملائكة ، وكل ما غيب الله . هذه الأسماء تدل على معانيها . وهدى الله سبحانه البشر إليها بما علم آدم من الأسماء ، فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن معطيات الأسماء بمسمياتها ؟ إذن لا بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظاً واحداً موجزاً يشير إليه . ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثلاً ؟ . أكان على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه ؟ أم يكفي أن يقول له لفظ " جبل " حتى يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى ؟ إذن … ففلسفة تعليم الحق للأسماء لنا أزاحت عنا عبئاً كبيراً من صعوبة التفاهم . ولولا ذلك لما استطعنا أن نتفاهم على شيء إلا إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه . فكلمة " جبل " وكلمة " صخر " وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات … وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن آخذ السامع إليها وأشير إليه قائلاً " إن هذه هي أمريكا " ، لكن كلمة واحدة هي " أمريكا " تعطي السامع معنى للمسمى ، فتلحق الأحكام على مسمياتها . وما دامت المسألة هكذا فلا بد من وجود أسماء لمسميات ، هذه الأسماء علمها الله للإنسان حتى يتفاهم بها والإنسان أصله من آدم . وكلمة " آدم " حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة ، والمذكر يقابله المؤنث . وقد خلق الحق الأعلى : الذكورة والأنوثة لأن من تزاوجهما سيخرج النسل . إذن فكان لا بد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد . فالذكر والأنثى ، هما بنو آدم ، ومنها ينشأ التكاثر ، لكن العجيب أن الله حين سمى آدم ونطقناه اسماً مذكراً وسمى " حواء " ونطقناه اسماً مؤنثاً ، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وُجِدَ منه الخلق هو " نفس " . لقد قال الحق : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] . لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس ، وهي مؤنثة ، إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير ، ولكن " التذكير " هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث . إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منا " نفس " وهي كلمة مؤنثة ، وحينما تكلم الحق سبحانه كلاماً آخر عن الخلق قال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [ الحجرات : 13 ] . وكلمة " ناس " تعني مجموع الإنسان . وهكذا نعرف أن كلمة : " إنسان " تُطلق مرة على المذكر ، ومرة أخرى على المؤنث . إذن فالحق قد أورد مرة لفظاً مذكراً ، ومرة أخرى أطلق لفظاً مؤنثاً ، وذلك حتى لا نقول : إن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث ، ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط ، ولذلك يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها . { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ … } [ الحجرات : 13 ] . ومعنى " لنتعارف " أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الآخرين . وفي حياتنا العادية - ولله المثل الأعلى - نجد رجلاً عنده أولاد كثيرون ، لذلك يُطلق على كل ابن اسماً ليعرفه المجتمع به ، والعجيب في هذه الآية الكريمة : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ } [ الحجرات : 13 ] . أننا نجد كلمة " شعوباً " مذكرة وكلمة " قبائل " مؤنثة . إذن فلا تمايز بالأحسن ، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف . والحق الأعلى يقول : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . إذن فما وضع النساء اللائي آمنّ ؟ إنهن يدخلن ضمن " الذين آمنوا " . ولماذا أدخل الله المؤنث في الذكر ؟ لأن المذكر هو الأصل ، والمؤنث جاء منه فرعاً . إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس . { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] . وهذا يعني أن " المؤنث " عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله . والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس . وبنوعية الذكر والأنثى . وفي الأمر الخاص بالمرأة ، يحدد الله المرأة بذاتيتها . فالحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] . لماذا ؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد : الرجل والمرأة ، زوج وزوجة ، فمثلاً نجد زوجاً يريد تطليق زوجته ، فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك . وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد الأمر فها هوذا قوله الحكيم : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [ الأحزاب : 32 - 33 ] . إن كل ما جاء في الآية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فالخطاب الموجه يحدد الأمر بدقة " لستن " و " اتقيتن " ، " لا تخضعن " ، و " قرن " ، و " لا تبرجن " . الحديث في هذه الآية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثاً . ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالإنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالأمر شاملاً للرجل والمرأة ويكون مذكراً ، ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة ، جاء قول الحق : { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْقَانِتَاتِ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلصَّادِقَاتِ وَٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّابِرَاتِ وَٱلْخَاشِعِينَ وَٱلْخَاشِعَاتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [ الأحزاب : 35 ] . هكذا حسم الحق الأمر . قال سبحانه تأكيداً لذلك : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 124 ] . إن الذكر والأنثى هنا يدخلان في وصف واحد هو " وهو مؤمن " إذن فعندما يأتي الأمر في المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل لأنها مبنية على الستر والحجاب ، مطمورة فيه . داخلة معه … فإذا قال الحق سبحانه لمريم : { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] فالركوع ليس خاصاً بالمرأة حتى يقول " مع الراكعات " ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة ، لذلك جاء الأمر لمريم بأن تركع مع الراكعين ، وبعد ذلك يقول الحق : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ … } .