Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 51-51)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعاً مربوبون إلى إله واحد ، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجاداً من عدم ، وتقتضي إمداداً من عدم ، وتقتضي رعاية قيومية ، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول : وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيداً عليكم ، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله . { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } [ آل عمران : 51 ] . ومعنى " هذا صراط مستقيم " أي أنه صراط غير مُلْتَوٍ لأن الطريق إذا التوى انحرف عن الهدف ، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد ، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة ، فستجد أن لها محيطاً ، ولها مركزاً ، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه " سن الفرجار " حتى نرسم الدائرة ، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار ، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق ، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق . فإذا ما كان الخلق جميعاً يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق ، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعاً إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم . والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد ، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق . إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة ، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة ، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئاً واحداً لا انفصال بينها أبداً . وهكذا الناس إذا التقوا جميعاً عند مركز عبوديتهم للإله الواحد ، فإذا ما اختلفوا ، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف . ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم } [ آل عمران : 51 ] ذلك هو منطق عيسى . كان منطقه الأول حينما كان في المهد { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] . إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية ، وهي قضية القمة ، إنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم ، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله ، فالهدف أن يحمل الناس جميعاً على سلوك هذا المنهج ، ويحدد حركة حياتهم بـ " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر بـ " افعل " فقد يجد في التكليف مشقة ، لماذا ؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه ، و " لا تفعل كذا " فيها مشقة لأنها تبعده عن عمل كان يحبه . والمرء في الأحداث بين اثنين : عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه ، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه ، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان " افعل " ولا " تفعل " إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف ، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف . ومعظم الناس لا تلتفت إلى الغاية الأصيلة ولا يفهمونها حق الفهم ، فيأتي أنصار الشر ولا يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم . إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف الإيماني ، وأفكار الشر تحاول الاقتراب بصاحبها من فعل الأمور التي حرمها التكليف . ولذلك ينقسم الناس لأنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود . إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام الإنسان مع الكون ، أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام الإنسان مع فطرته ومع الكون ، فإذا كانت الحركة تصل بالإنسان إلى هدفه الإيماني . فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن ، وإذا كانت تبعده عن هدفه تكون حركة سيئة وباطلة ، وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة . إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما ، وما دام ذلك هو هدفه فنحن نقيس حركة سلوكه ، هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه ؟ فإن كان مجتهداً . فاجتهاده حركة تقرب له الهدف ، وإن كان كسولاً ، خاملاً فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف . إذن يجب أن نحدد الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحاً . أو غير صالح . وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفاً وغاية . وما دام هناك من يعتبر غير الهدف هدفاً فلابد من حدوث اضطراب وضلال ، فالذي يعتبر أن الحياة هي الهدف ، فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها . أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو الحياة ، إنما الحياة مرحلة ، نسأله … ما الهدف إذن ، فيقول : إنه لقاء الله والآخرة . هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف . لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ولا يؤمن بالجنة أو النار ، هو غارق في ضلاله ويقبل على ما تشتهيه نفسه ، ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه سعادته . ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا ، وأن الهدف في مجال آخر ، لذلك يسعى في تطبيق التكاليف الإيمانية ليصل إلى الهدف ، وهو الجنة . إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف ، وحين يوجد الهدف ، فالإنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف فيفعله ، فهذا هو الخير . أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر . وإذا كان الأمر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من الأحداث بما يناقض معرفة الهدف ، وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الآخرة لتلقى الله فلماذا يغرق في الحزن إنسان لأن له حبيباً قد انتقل إلى رحمة الله ؟ هذا الإنسان يمكننا أن نسأله ، لماذا تحزن وقد قصر الله عليه خطواته إلى الهدف ؟ لا بد أنك حزين على نفسك لأنك مستوحش له ، ولأنك كنت تأنس به ، أما حزنك من أجله هو ، فلا حزن ، لأنه اقترب من الهدف ووصل إليه . وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى الإسكندرية من القاهرة ، نجد إنساناً ما يذهب إلى الإسكندرية ماشياً ، لأنه لا يجد نقوداً أو وسيلة توصله ، وتجد آخر يذهب إليها راكباً حماراً ، وثالثاً يذهب إليها راكباً حصاناً ، ورابعاً يصل إليها راكباً " أتوبيساً " ، وخامساً يصل إليها بركوب الطائرة ، وسادساً يصل إليها بصاروخ ، وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له ، وهكذا نجد إنساناً يذهب إلى الله ماشياً في سبعين عاماً ، وآخر يستدعيه الله فوراً ، فلماذا تحزن عليه ؟ إن لنا أن نحزن على الإنسان الذي لم يكن موفقاً في خدمة الهدف ، أما الموفق في خدمة الهدف فلنا أن نفرح له ، ونقول : إن الله قد قصر عليه المسافة ، وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائلاً " إنه لم ير الدنيا " لهذا الإنسان نقول : يا رجل إن الله جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية ، فما الذي يحزنك ؟ إن علينا أن نحسن استقبال ما يقضي به الله في خلقه ، ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب ألا نفهمه خارجاً عن الحكمة . وبعد تلك الآيات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلام … قال الحق سبحانه : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ … } .