Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 79-79)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه ، فهو ينزله في كتاب ، ويقتضي ذلك أن يصطفي سبحانه إنساناً للرسالة ، أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس ، الرسول مصطفى من الله ويختلف في مهمته عن النبي ، فالنبي أيضاً مصطفى ليطبق المنهج ، وهكذا حتى لا يسمع الناس المنهج ككلام فقط ولكن يرونه تطبيقاً أيضاً ، إذن فالرسول واسطة تبليغية ونموذج سلوكي ، والنبي ليس واسطة تبليغية ، بل هو نموذج سلوكي فقط . إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول ، ولذلك تأتي الآية : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] . هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند الله ، الرسول مرسل للبلاغ والأسوة ، والنبي مرسل للأسوة فقط ، لأن هناك بعضاً من الأزمنة يكون المنهج موجوداً ، ولكن حمل النفس على المنهج ، هو المفتقد ، ومثال ذلك عصرنا الحاضر . إن المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلال وما الحرام ، لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج ، لذلك فنحن نحتاج إلى أسوة سلوكية ، هكذا عرفنا الكتاب ، والنبوة ، فما هو الحكم إذن ؟ لقد جاء الحق بكلمة : " الحكم " هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة الإيمانية في الرسول أو النبي فقط ، بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية الإيمانية ، وتكون القضية الإيمانية ناضجة في ذهنه ، فيقولها لأن الحكمة تقتضي هذا . ألم يذكر الله لنا وصية لقمان لابنه ؟ إن وصية لقمان لابنه هي المنهج الديني ، وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون رسالة أو نبوة ، ولكن المنهج الإيماني ينقدح في ذهنه ، فيعظ به ويطبقه ، وهذا إيذان من الله على أن المنهج يمكن لأي عقل حين يستقبله أن يقتنع به ، فيعمل به ويبلغه . ولابد لنا أن نؤكد أن من يهبه الله الحكمة في الدعوة لمنهج الله وتطبيق هذا المنهج ، لن يضيف للمنهج شيئاً ، وبحكم صدقه مع الله فهو لن يدعي أنه مبعوث من الله للناس ، إنه يكتفي بالدعوة لله وبأن يكون أسوة حسنة . لكن لماذا جاءت هذه الآية ؟ لقد جاءت هذه الآية بعد جدال نصارى نجران مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : - بماذا تؤمن وتأمر ؟ فأبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوامر المنهج ونواهيه ، ، وأصول العبادة ، ولأن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب ، بعضهم من نصارى نجران والبعض الآخر من يهود المدينة ، وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند الله ، ويريدون من الناس طاعة هذه الأوامر ، ، لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول الله صلى الله عليه السلام وأوامره ، وبين ما زيفوه هم من أوامر ، فمحمد صلى الله عليه وسلم يطلب من الناس عبادة الله على ضوء المنهج الذي أنزله عليه الحق سبحانه ، أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم . والطاعة - كما نعلم - هي لله وحده في أصول كل الأديان ، فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من الله ، وطلب من الناس أن يطيعوه فيه ، فهذا معناه أن ذلك الإنسان يطلب أن يعبده الناس - والعياذ بالله - لأن طاعة البشر في غير أوامر الله هي شرك بالله . ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض من أهل الكتاب ، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منهم طاعتهم لأوامره هو ، كما كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا : أتريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً ؟ إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول الأمين على منهج الله ، وبين رؤسائهم الذين خالفوا الأحكام واستبدلوها بغيرها ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم طاعته لذاته هو ، ولكنه قد طلب منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسولا وقدوة ، واستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوه . وأنزل الله سبحانه قوله الحق : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 79 ] . لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن الله لم يختر رسولاً أميناً على المنهج ، وظنوا بالله ظن السوء ، أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم ، فتحولوا عن عبادة الله إلى عبادة من بعثه الله رسولاً ، ولذلك جاء القول الفصل { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 79 ] . وقد ينصرف المعنى أيضاً إلى أن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يُجِلُّونَه - صلى الله عليه وسلم - وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعظمه ، ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له : أنسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، ألا نسجد لك ؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب السجود له من أحد ، والحق سبحانه هو الذي كلف عباده المؤمنين بتكريم رسوله فقال : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] . إن المطلوب هو التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا أن نعطي له أشياء لا تكون إلا لله . إن تعظيم المسلمين لرسول الله وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفاً عن دعاء بعضنا بعضاً . والحق في هذه الآية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول : { وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } [ آل عمران : 79 ] . إن " لكن " هنا للاستدراك ، مثلما قلنا من قبل : إن " بلى " تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها قضية مخالفة لها . إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لأحد من البشر أن يقول : " كونوا عباداً لي " بعد أن أعطاه الله الكتاب والحكم والنبوة ، والقضية التي يتم الاستدراك من أجلها وإثباتها هي : " كونوا ربانيين " وكلمة " رباني " ، وكلمة " رب " ، وكلمة " ربيون " ، وكلمة " ربان " ، وكل المادة المكونة من " الراء " و " الباء " تدل على التربية ، والولاية ، وتعهد المربي ، وتدور حول هذا المعنى . أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة . وكلمة " الرب " توضح المتولي للتربية ، إذن فما معنى كلمة " رباني " ؟ إنك إذا أردت أن تنسب إلى " رب " تقول : " ربِّي " . وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفاً ونوناً فنقول : " رباني " ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمراً إلى العلم فيقولون : " علماني " وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم . والفرق بين " علمي " و " علماني " هو أن العلماني يزعم لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي ، ونجد أن في " علماني " ألفاً ونوناً زائدين لتأكيد النسبة إلى العلم . وقد يقول قائل : ولماذا نؤكد الانتساب إلى الله بكلمة " رباني " ؟ ونقول : لأن الكلمة مأخوذة من كلمة رب ، وتؤدي إلى معان : منها أن كل ما عنده من حصيلة البلاغ لابد أن يكون صادراً ومنسوباً إلى الرب لأنه لم يأت بشيء من عنده ، أي أنه يأخذ من الله ولا يأخذ من أحد آخر أبداً فهو رباني الأخذ . وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر : إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفاً بخلق أنزله رب يربي الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم ، فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربياً ، ويدبر الأمر للفلاح والصلاح . يقول الحق - سبحانه - : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } [ آل عمران : 79 ] إن العلم هو تلقي النص المنهجي . والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي . لذلك فنحن في الريف نقول : " ندرس القمح " أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل حبوب القمح عن " التبن " وتكون نتيجة الدراس هي استخلاص النافع . . إذن ففيه فرق بين " تعلمون " أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من الله وذلك خاضع لتلقي النص ، وبين " ما كنتم تدرسون " أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص . إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة ، ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء ، ويقال : " دارسه " أي أن واحداً قد قام بتبادل التدريس مع آخر ، ويقال أيضاً " تدارسنا " أي أنني قلت ما عندي وأنت قد قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص . وقد يأتي النص محكماً ، وقد يأتي النص محتملاً لأكثر من معنى . وما دمت قد تعلمت ، فلابد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج . وما دمت قد تدارست ، فلا بد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لأهل الذكر حُسْن استقبال المنهج لذلك يجب أن تكون ربانياً في الأمرين معاً . وبعد ذلك يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً … } .