Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 7-7)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم ، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم ، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه ، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيماً كله جميل وكله خير . فيقول سبحانه : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] . ماذا يعني الحق بقول : { آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم لأنه محكم ، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس ، فعندما يقول : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا … } [ المائدة : 38 ] . هذه آية تتضمن حُكما واضحاً . وهو سبحانه يقول : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا … } [ النور : 2 ] . هذه أيضاً أمور واضحة ، هذا هو المُحكَم من الآيات ، فالمُحكَم هو ما لا تختلف فيه الأفهام لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه ، و " المُتشَابِه " هو الذي نتعب في فهم المراد منه ، وما دمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله ؟ ويوضح لنا سبحانه - كما قلت لك - خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل ؟ فالمُحْكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق ، أي افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، وما دامت أفعالاً مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يُثاب عليها ، والذي لم يفعلها يُعاقب ، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب ، فيأتي بها صورة واضحة ، وإلا لقال واحد : " أنا لم أفهم " ، إن الأحكام تقول لك : " افعل كذا ولا تفعل كذا " فهي حين تقول : " افعل " أنت صالح ألا تفعل ، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط لا يقول لك : افعل ، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك : " افعل " . وساعة يقول لك : " لا تفعل " ، فأنت صالح أن تفعل ، فلا يقال : " افعل ولا تفعل " إلاّ لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل ، ونلحظ أنه حين يقول لي : افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك ، ولذلك يقول الحق في الصلاة : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] . فعندما يقول لي : " افعل ولا تفعل " معناها : أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها ، وأنّ شيئاً ثقيلاً عليَّ أن أتركه ، فمثلاً البصر خلقه الله صالحاً لأن يرى كل ما في حيَّزه . على حسب قانون الضوء ، والحق يقول له : { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ يونس : 101 ] . ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق : اغضض . { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [ النور : 30 - 31 ] . ومعنى " يغضوا " و " يغضضن " أنه سبحانه حدد حركة العين ، ومثال آخر اليد تتحرك فيأمرك - سبحانه - ألاّ تحركها إلا في مأمور به ، فلا تضرب بها أحداً ، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً . إذن ، فهو سبحانه يأتي في " افعل ولا تفعل " ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك ، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام ، يقول الأمر التعبدي : قم وصل ، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني : لا تغضب . إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان ، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً فيقول له : لا تفعل ، وقد يريد ألاّ يفعل فعلَ خير يقول له : افعل . إذن فكل حركات الإنسان محكومة بـ " افعل ولا تفعل " ، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك ، مثل العين والأذن واللسان . إن مهمة العقل أن يدرك ، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمراً آخر ، وجعل الله الآيات المحكمات ليريح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم لأنها قد تعلو الإدراك البشري . ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تُدرك حكمة تشريعه ، وأيضاً لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات . وإذا قرأنا قول الحق : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103 ] . نرى أن ذلك كلام عام . وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] . ويتكلم عن الكفار فيقول : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] . إذن فالعقل ينشغل بقوله : " لا تدركه الأبصار " ، وهذا يحدث في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون الإنسان قد تم إعداده إعداداً آخر ليرى الله ، نحن الآن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها الله لنحيا في هذا العالم لا نستطيع أن نرى الله ، ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهلاً ولا مهيأ لها الآن ، أمر موجود في دنيانا ، فنحن نعرف أن إنساناً أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم صناعة نظارة طبية له فيرى . ومن لا يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها . فإذا كان البشر قد استطاعوا أن يُعِدُّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة حاسة ما ، فما بالنا بالخالق الأكرم الإله المُربّي ، ألا يستطيع أن يعيد خلقنا في الآخرة بطريقة تتيح لنا أن نرى ذاته ووجهه ؟ ! إنه القادر على كل شيء . إذن فالأمر هنا متشابه ، إن الله يُدرَك - بضم الياء وفتح الراء - أو لا يُدْرَك ، فما الذي تغير من الأحكام بالنسبة لك ؟ لا شيء . إذن فهذه الآيات المتشابهات لم تأتِ من أجل الأحكام ، إنما هي قد جاءت من أجل الإيمان فقط ، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهي كل خلاف للعلماء حول هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم : " إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به " . إن المُتشَابه من الآيات قد جاء للإيمان به ، والمُحْكَم من الآيات إنما جاء للعمل به ، والمؤمن عليه دائماً أن يرد المُتشَابِه إلى المُحْكَم . مثال ذلك عندما نسمع قول الله عز وجل : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 10 ] . إن الإنسان قد يتساءل : " هل لله يد " ؟ على الإنسان أن يرد ذلك إلى نطاق { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . وعندما يسمع المؤمن قول الحق : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . فهل لله جسم يستقر به على عرش ؟ هنا نقول : هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن الإيمان به ، ذلك أن وجودك أيها الإنسان ليس كوجود الله ، ويدك ليست كيد الله وأن استواءك أيضاً ليس كاستواء الله . وما دام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده كيدك ؟ هو كما قال عن نفسه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . ولماذا أدخلنا الله إلى تلك المجالات ؟ لأن الله يريد أن يُلفت خلقه إلى أشياء قد لا تستقيم في العقول فمَنْ يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى المُحْكَم بأن الله ليس كمثله شيء . فله ذلك ، ومن يتسع ظنه ويقول : أنا آمنت بأن لله يداً ولكن في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] فله ذلك أيضاً وهذا أسلم . والحق يقول : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ آل عمران : 7 ] ومعنى " أُمّ " أي الأصل الذي يجب أن ينتهي إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه ، أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول : إن لله يداً ، ولكن ليست كأيدي البشر . إنما تدخل في نطاق : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . ولماذا قال الحق : { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [ آل عمران : 7 ] ؟ ولم يقل : هن أمهات الكتاب ؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه ليس كل واحدة منهن أُمّاً ، ولكن مجموعها هو الأم ، ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [ المؤمنون : 50 ] . لم يقل الحق : إنهما آيتان لأن عيسى عليه السلام لم يوجد كآية إلا بميلاده من أمه دون أب أي بضميمة أمه ، وأم عيسى لم تكن آية إلا بميلاد عيسى أي بضميمة عيسى . إذن فهما معاً يكونان الآية ، وكذلك { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] فالمقصود بها ليس كل محكم أُمّا للكتاب ، إنما المحكمات كلها هي الأم ، والأصل الذي يَرُدُّ إليه المؤمنُ أيَّ متشابهٍ . ومهمة المحكم أن نعمل به ، ومهمة المتشابه أن نؤمن به بدليل أنك إن تصورته على أي وجه لا يؤثر في عملك . فقوله الحق : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] لا يترتب عليه أي حكم ، وهنا يكفي الإيمان فقط . لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم الله : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] ؟ . ولنا أن نعرف أن " الزيغ " هو الميْل ، فزاغ يعني مال ، وهي مأخوذة من تزايغ الأسنان ، أي اختلاف منابتها ، فسِنَّةٌ تظهر داخلة ، وأخرى خارجة ، وعندما لا تستقيم الأسنان في طريقة نموها يصنعون لها الآن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفاً واحداً . إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل ، يتبعون ما تشابه من الآيات ابتغاء الفتنة . كأن الزيغ أمر طارئ على القلوب ، وليس الأصل أن يكون في القلوب زيغ ، فالفطرة السليمة لا زيغ فيها ، لكن الأهواء هي التي تجعل القلوب تزيغ ، ويكون الإنسان عارفاً لحكم الله الصحيح في أمر ما ، لكن هوى الإنسان يغلب فيميل الإنسان عن حكم الله . والميل صنعة القلب ، فالإنسان قد يخضع منطقه وفكره ليخدم ميل قلبه ، ولذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " . لماذا ؟ لأن آفة الرأي الهوى ، وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم ، لكن الواحد منهم ينحرف لما يهوى ، ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في الانحراف يتوب ويعلن توبته ، وهذا أمر معروف في كثير من الأحيان لأن الميل تَكَلَّفٌ تبريري ، أما القصد السليم فأمر فطري لا يُرهِق ، ومثال ذلك : عندما ينظر الإنسان إلى حلاله ، فإنه لا يجد انفعال مَلكة يناقض انفعال ملكة أخرى ، ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته ، فإن ملكاته تتعارك ، ويتساءل : هل ستقبل منه النظرة أم لا ؟ إن ملكاته تتضارب ، أما النظر إلى الحلال فالملكات لا تتعب فيه . لذلك فالإيمان هو اطمئنان ملكات ، فكل ملكات الإنسان تتآزر في تكامل ، فلا تسرق ملكة من وراء أخرى . مثال آخر : عندما يذهب واحد لإحضار شيء من منزله ، فإنه لا يحس بتضارب ملكاته ، أما إذا ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب ، وكذلك جوارحه لأنها خالفت منطق الحق والاستقامة والواقع . { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } [ آل عمران : 7 ] إذن فاتباعهم للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلاً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم . فالميل موجود عند قلوبهم أولاً ، ثم بدأ الفكر يخضع للميل ، والعبارة تخضع للفكر ، وهكذا نرى أن الأصل في الميل قد جاء منهم . . ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ … } [ الصف : 5 ] . كأنه يقول : ما دمتم تريدون الميل فسأميلكم أكثر وأساعدكم فيه . والحق سبحانه لا يبدأ إنساناً بأمر يناقض تكليفه ، لكن الإنسان قد يميله هواه إلى الزيغ ، فيتخلى الله عنه : ويدفعه إلى هاوية الزيغ . وآية أخرى يقول فيها الحق : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 127 ] . إنهم الذين بدأوا انصرفوا عن الله فصرف الله قلوبهم بعيداً عن الإيمان . وكذلك الذين يتبعون المتشابه يبتغون به الفتنة أي يطلبون الفتنة ، ويريدون بذلك فتنة عقول الذين لا يفهمون ، وما داموا يريدون فتنة عقول مَنْ لا يفهمون فهم ضد المنهج ، وما داموا ضد المنهج فهم ليسوا مؤمنين إذن ، وما داموا غير مؤمنين فلن يهديهم الله إلى الخير ، لأن الإيمان يطلب من الإنسان أن يتجه فقط إلى الإيمان بالرب الإله الحكيم ، ثم تأتي المعونة بعد ذلك من الله . لكن عندما لا يكون مؤمناً فكيف يطلب المعونة من الله ، إنه سبحانه يقول : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . إنهم يبتغون الفتنة بالمتشابه ، ويبتغون تأويله ، ومعنى التأويل هو الرجوع ، لأننا نقول : " آل الشيء إلى كذا " أي رجع الشيء إلى كذا ، فكأن شيئاً يرجع إلى شيء ، فمن لهم عقل لا زيغ فيه يحاولون جاهدين أن يؤولوا المُتشَابه ويردوه إلى المُحكم ، أو يؤمنوا به كما هو . يقول الحق بعد ذلك : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] إن الله لو أراد للمتشابه أن يكون مُحْكَما ، لجاء به من المُحكَم ، إذن فإرادة الله أن تكون هناك آيات المتشابه ومهمتها أن تحرك العقول ، وذلك حتى لا تأتي الأمور بمنتهى الرتابة التي يجمد بها عقل الإنسان عن التفكير والإبداع ، والله يريد للعقل أن يتحرك وأن يفكر ويستنبط . وعندما يتحرك العقل في الاستنباط تتكون عند الإنسان الرياضة على الابتكار ، والرياضة على البحث ، وليجرب كل واحد منا أن يستنبط المتشابه إلى المحكم ولسوف يمتلك بالرياضة ناصية الابتكار والبحث ، والحاجة هي التي تفتق الحيلة . إن الحق يريد أن يعطي الإنسان دربة حتى لا يأخذ المسائل برتابة بليدة ويتناولها تناول الخامل ويأخذها من الطريق الأسهل ، بل عليه أن يستقبلها باستقبالٍ واع وبفكر وتدبر . { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] . كل ذلك حتى يأخذ العقل القدر الكافي من النشاط ليستقبل العقل العقائد بما يريده الله ، ويستقبل الأحكام بما يريده الله ، فيريد منك في العقائد أن تؤمن ، وفي الأحكام أن تفعل { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] . والذين في قلوبهم زيغ يحاولون التأويل وتحكمهم أهواؤهم ، فلا يصلون إلى الحقيقة . والتأويل الحقيقي لا يعلمه إلا الله . قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له : يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم الله ؟ فقال له : لا . قال له : أنا من الذي لا تعلم . وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه . والعلماء لهم وقفات عند قوله الحق : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] : بعضهم يقف عندها ويعتبر ما جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] كلاماً مستأنفاً ، إنهم يقولون : إن الله وحده الذي يعلم تأويل المتشابه ، والمعنى : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] أي الثابتون في العلم ، الذين لا تغويهم الأهواء ، إنهم : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، إن الراسخين في العلم يقولون : إن المحكم من الآيات سيعلمون به ، والمتشابه يؤمنون به ، وكل من المتشابه والمحكم من عند الله . أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] نقول له : إن الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه ، وكان نتيجة علمهم قولهم : " آمنا به " . إن الأمرين متساويان ، سواء وقفت عند حد علم الله للتأويل أو لم تقف . فالمعنى ينتهي إلى شيء واحد . وحيثية الحكم الإيماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهم : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] فالمحكم من عند ربنا ، والمتشابه من عند ربنا ، وله حكمة في ذلك لأنه ساعة أن يأمر الأعلى الأدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الأدنى ويعمل ، وبعد ذلك يلقى الأعلى أمراً آخر ولا يبين علته ، فواحد ينفذ الأمر وإن لم يعرف العلة ، وواحد آخر يقول : لا ، عليك أن توضح لي العلة . فهل الذي آمن آمن بالأمر أم بالعلة ؟ إن الحق يريد أن نؤمن به وهو الآمر ، ولو أن كل شيء صار مفهوماً لما صارت هناك قيمة للإيمان . إنما عظمة الإيمان في تنفيذ بعض الأحكام وحكمتُها غائبة عنك لأنك إن قمت بكل شيء وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة ، ولست مؤمناً بمن أصدر الأمر . وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه الله من أربعة عشر قرناً ، ويظهر في العصر الحديث أن في أكل لحم الخنزير مضار ، ويمتنع الناس عن أكله لأن فيه مضار ، فهل امتناع هؤلاء أمر يثابون عليه ؟ طبعاً لا ، لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لأن الله قد حرمه ولأن الأمر قد صدر من الله ، حتى دون أن يَعَرِّفنا الحكمة ، إن المؤمن بالله يقول : إن الله قد خلقني ولا يمكن - وهو الخالق - أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته . إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثالاً لأمر الله ، هو الذي ينال الثواب ، أما الذي يمتنع خوفاً من اهتراء الكبد أو الإصابة بالمرض فلا ثواب له . وهناك فرق بين الذهاب إلى الحكم بالعلة . وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للأمر بالحكم . إذن فالمتشابه من الآيات نزل للإيمان به ، والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الأهواء ، والأهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق . وما دامت ابتغاءات غير الحق ، فغير الحق هو الباطل ، فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه . ولذلك جاء التشريع من الله ليعصم الناس من الأهواء لأن هوى إنسانٍ ما قد يناقض هوى إنسان آخر ، والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الأهواء . والحق سبحانه يقول : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] . إذن فلا بد أن نتبع في حركتنا ما لا هوى له إلا الحق ، والدين إنما جاء ليعصمنا من الأهواء فالأهواء هي التي تميلنا ، والذي يدل على أن الأهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب الهوى يهوى حكماً في شيء ، ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكماً مقابلاً ، إنه يلوي المسألة على حسب هواه ، وإلا فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الأول الذي حكم الأرض منذ آدم عليه السلام ؟ لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية ، وأصبحوا يُخضعون المسائل إلى أهوائهم . ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد . كان الحكم كله لهم ، لأن هؤلاء كانوا هم المتكلمين بمنهج الله . ولماذا لم يستمر هذا الأمر ، وجاءت القوانين الرومانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها ؟ لأنهم جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم ، فلاحظ الناس أن هؤلاء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية متشابهة . إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة ، لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى أخرى ، بل وقد يتناقض مع الحكم الأول ، فقال الناس عن هؤلاء الكهنة : لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم ، ليثبتوا لهم سلطة زمنية ، فنحن لم نعد نأمنهم على ذلك . وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين . لقد كان أمر القضاء بين الكهنة ورجال الدين لأن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الأحكام من منهج الله ، فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين لا يأخذون الحكم من منهج الله ، ولكن من الهوى البشرى ، عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لأنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة . وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلاثة ألفاظ : أولا : الهواء هو ما بين السماء والأرض ، ويراد به الريح ويحرك الأشياء ويميلها وجمعه : الأهوية وهذا أمر حسيّ . ثانيا : الهوَى : وهو ميل النفس ، وجمعه : الأهواء ، وهو مأخوذ من هَوِىَ يَهْوَى بمعنى مال . ثالثا : الهَوىّ : بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من هَوَى يَهْوي : بمعنى سقط . وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لابد أن يسقط ، والاشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعنى . إنها متلاقية . إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج الله . وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم يميلون على حسب ميل الريح . فإن الريح مالت ، مالوا حيث تميل . ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم : آمنا { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] . وهنا تلتقي المسألة ، فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به ، والمشابه نزل للإيمان به لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى ، وهي أن نأخذ الأمر من الآمر لا لحكمة الأمر . وعندما نأخذ الأوامر من الحق فلا نسأل عن علتها لأننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل . والإنسان إن لم ينفذ الأمر القادم من الله إلا إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا الإنسان : أنت لا تؤمن بالله ولكنك تؤمن بالعلة والحكمة ، والمؤمن الحق هو من يؤمن بالأمر وإن لم يفهم . والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند الله ، المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند ربنا . ويضيف سبحانه : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ آل عمران : 7 ] و " أولوا الألباب " أي أصحاب العقول المحفوظة من الهوى ، لأن آفة الرأي الهوى ، والهوى يتمايل به . { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ آل عمران : 7 ] و " اللب " هو : العقل ، يخبرنا الله أن العقل يحكم لُبّ الأشياء لا ظواهر الأشياء وعوارضها ، فهناك أحكام تأتي للأمر الظاهر ، وأحكام للُبّ . الحق يأمر بقطع يد السارق . وبعد ذلك يأتي من يمثل دور حامي الإنسانية والرحمة ويقول : " هذه وحشية وقسوة " ! هذا ظاهر الفهم ، إنما لُبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق لأن كل واحد يخاف على ذاته ، فيمنعه ذلك أن يسرق . وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها مشوهون قدر مَنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ الإسلام كله ، فلا تفتعل وتدعي أنك رحيم ولا تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب ، ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه ، فإن الله يريد أن يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا عملت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن الله لك حصيلة هذا العمل ، فلا يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت . إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن ، هذا " لُبّ " الفهم ، ولذلك يقول تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ … } [ البقرة : 179 ] ، إياكم أن تقولوا : إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد . لا ، لأن " لكم في القصاص حياة " إنْ مَن علم إنه إن قَتل فسيقتل ، سيمتنع عن القتل ، إذن فقد حمينا نفسه وحمينا الناس منه ، وهكذا يكون في القصاص حياة ، وذلك هو لُبّ الفهم في الأشياء فالله سبحانه وتعالى يلفتنا وينبهنا ألاّ نأخذ الأمور بظواهرها ، بل نأخذها بلُبِّها ، وندع القشور التي يحتكم إليها أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم الله . و { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } [ آل عمران : 7 ] حينما فَصلوا في أمر المتشابه دعوا الله بالقول الذي أنزله - سبحانه - : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً … } .