Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 17-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هنا تتجلى عظمة الإيمان ، وتتجلى محبة الله تعالى لخَلْقه ، حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم والليلة ، في الصباح وفي المساء ، في العشية والظهيرة . والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به ، إنما لحبه لهم ، وحرصه عليهم ليعطيهم ، ويفيض عليهم من آلائه ، وإلا فهو سبحانه بصفات الكمال والجلال غنيٌّ عنهم ، فإيمان المؤمنين لا يزيد في مُلكه سبحانه شيئاً ، كذلك كُفْر الكافرين لا ينقص من مُلكه سبحانه شيئاً . إذن : المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرَّ صنعته ، ويُكرم خَلْقه وعباده لذلك يستدعيهم إلى حضرته ، وقرَّبنا هذه المسألة بمثل - ولله تعالى المثل الأعلى - ، قلنا : إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء ، أو أصحاب المراكز العليا ، فدون هذا اللقاء مشاقّ لا بُدَّ أن تتجشمها . لا بُدَّ أن يُؤْذَن لك أولاً في اللقاء ، ثم يُحدَّد لك الزمان والمكان ، بل ومدة اللقاء وموضوعه ، وربما الكلمات التي ستقولها ، ثم هو الذي يُنهي اللقاء ، لا أنت . هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق ، فما بالك بلقاء الخالق عز وجل ؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى حضرته ، ويجعل ذلك فرضاً وحتماً عليك ، ويطلبك قبل أنْ تطلبه ، ويذكرك قبل أن تذكره ، لا مرة واحدة ، إنما خمس مرات في اليوم والليلة ، فإذا لبَّيْتَ طلبه أفاض عليك من رحمته ، ومن نعمه ، ومن تجلياته ، وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم ، أيصيبها عطب ؟ ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة ، فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع ، فإنْ أردتَ أنْ تطيل أمد المقابلة ، فإن ربك لا يملّ حتى تمل لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا لله تعالى قَدْره ، وعرفوا عطاءه ، وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون : @ حَسْبُ نفسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يَحْتَفِي بي بلاَ مَواعيدَ رَبّ هُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكن أنا ألقي كيفما وأين أحب @@ والعبودية كلمة مكروهة عند البشر لأن العبودية للبشر ذُلٌّ ومهانة ، حيث يأخذ السيد خير عبده ، أمّا العبودية لله فهي قمة العزِّ كله ، وفيها يأخذ العبد خير سيده لذلك امتنّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في قوله سبحانه : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] . وكلمة { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ … } [ الروم : 17 ] هي في ذاتها عبادة وتسبيح لله تعني : أُنزِّه الله عن أنْ يكون مثله شيء لذلك يقول أهل المعرفة : كل ما يخطر ببالك فالله غير ذلك لأنه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . فالله سبحانه مُنزَّه في ذاته ، مُنزَّه في صفاته ، مُنزَّه في أفعاله ، فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق سبحانه نفهمها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] . وقلنا : إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب الله تجد في أول الإسراء : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] وفي أول سورة الحديد : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحديد : 1 ] ثم { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ الجمعة : 1 ] . فكأن الله تعالى مُسبَّح أزلاً قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ، فالتسبيح ثابت لله أولاً ، وبعد ذلك سبَّحَتْ له السماوات والأرض ، ولم ينقطع تسبيحها ، إنما ما زالت مُسبِّحة لله . فإذا كان التسبيح ثابتاً لله تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ، وحين خلق السماوات والأرض سبَّحتْ له السماوات والأرض وما زالت ، فعليك أنت أيها الإنسان ألاَّ تشذَّ عن هذه القاعدة ، وألاَّ تتخلف عن هذه المنظومة الكونية ، وأن تكون أنت كذلك مُسبِّحاً لذلك جاء في القرآن : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] . فاستح أنت أيها الإنسان ، فكل شيء في الوجود مُسبِّح { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . لكن أراد بعض العلماء أنْ يُقرِّب تسبيح الجمادات التي لا يسمع لها صوتاً ولا حِسّاً ، فقال : إن تسبيحها تسبيح دلالة على الله . ونقول : إنْ كان تسبيحَ دلالة كما تقول فقد فهمته ، والله يقول { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . إذن : ففهْمُك له غير حقيقي ، وما دام أن الله أخبر أنها تُسبِّح فهي تسبِّح على الحقيقة بلغة لا نعرفها نحن ، ولِمَ لا والله قد أعطانا أمثلة لأشياء غير ناطقة سبَّحتْ ؟ ألم يقُلْ عن الجبال أنها تُسبِّح مع داود عليه السلام : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ … } [ سبأ : 10 ] ألم يُثبت للنملة وللهدهد كلاماً ومنطقاً ؟ وقال في عموم الكائنات : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . إذن : فالتسبيح لله تعالى من كل الكائنات ، والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا : فأنت إذا لم تكُنْ تعرف الإنجليزية مثلاً ، أتفهم مَنْ يتكلم بها ؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تُنطق ، وتسمعها بنفس الطريقة التي تتكلم أنت بها . لذلك تأتي كلمة سبحان الله في الأشياء التي يجب أنْ تُنزه الله فيها ، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى في الإسراء : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] كأنه سبحانه يقول لنا : نزِّهوا الله عن مشابهة البشر ، وعن قوانين البشر في هذه المسألة ، إياك أنْ تقول : كيف ذهب محمد من مكة إلى بيت المقدس ، ثم يصعد إلى السماء ، ويعود في ليلة واحدة . فبقانون البشر يصعُب عليك فَهْم هذه المسألة ، وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا : كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة ؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم هم ، فاستبعدوا ذلك وكذَّبوه . ولو تأملوا الآية { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] وهم أهل اللغة لَعرفوا أن الإسراء لم يكُنْ بقوة محمد ، فلم يقُلْ أسريتُ ، ولكن قال : " أُسرِي بي " ، فلا دخلَ له في هذه المسألة وقانونه فيها مُلْغى ، إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به . إذن : عليك أن تُنزه الله عن قوانينك في الزمان وفي المسافة ، وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة للعقل ، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة ، فالذي يسير غير الذي يركب دابةً ، غير الذي يركب سيارة أو طائرة أو صاروخاً وهكذا . فإذا كان في قوانين البشر : إذا زادت القوة قَلَّ الزمن ، فكيف لو نسَبْتَ القوة إلى الله عز وجل ؟ عندها نقول : لا زمن فإنْ قُلْتَ : إن ألغينا الزمن مع قوة الله وقدرته تعالى ، فلماذا ذكر الزمن هنا وقُدِّر بليلة ؟ قالوا : لأن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة ، إنما تعرَّض فيها النبي صلى الله عليه وسلم لَمَراء كثيرة ، وقابل هناك بعض الأنبياء ، وتحدَّث معهم ، فهذه الأحداث لرسول الله هي التي استغرقتْ الزمن ، أمّا الرحلة فلم تستغرق وقتاً . كذلك جاءت كلمة سبحان في قوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] لماذا ؟ لأن مسألة الخَلْق من المسائل التي يقف عندها العقل ، وينبغي أنْ نُنزِّه الله عن أنْ يشاركه فيها أحد . ولما نزلت هذه الآية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لأنهم كانوا يُلقِّحون النخل ، ويعرفونها في الإنسان لأنهم يتزوجون وينجبون ، وكذلك يعرفونها في الحيوان ، هذه حدود العقل في مسألة الزوجية . لكن الآية لم تقتصر على ذلك ، إنما قال سبحانه { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] لأن المستقبل سيكشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية ، وقد عرفنا نحن هذه النظرية في الكهرباء مثلاً حيث السالب و الموجب ، وفي الذرات حيث الإلكترونات ، و البروتونات … إلخ . إذن : ساعةَ تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثاً فريداً ، ليس كأحداث البشر ، ولا يخضع لقوانينهم . ثم يقول سبحانه : { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ … } .