Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 19-19)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أولاً : ما مناسبة الحديث عن البعث ، وإخراج الحيِّ من الميت ، وإخراج الميت من الحيِّ بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده ؟ قالوا : لأنه تكلَّم عن المساء والصباح ، وفيهما شبه بالحياة والموت ، ففي المساء يحلُّ الظلام ، ويسكُن الخَلْق وينامون ، فهو وقت للهدوء والاستقرار ، والنوم الذي هو صورة من صور الموت لذلك نسميه الموت الأصغر ، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش ، ففيه إذن حياة ، كما يقول سبحانه : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 10 - 11 ] . ويُُمثَّل الموت والبعث بالنوم والاستيقاظ منه ، كما جاء في بعض المواعظ : " لتموتُن كما تنامون ، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون " . وما دُمْنا قد شاهدنا الحاليْنِ ، وعايّنا النوم واليقظة ، فلنأخذ منهما دليلاً على البعث بعد الموت ، وإنْ أخبرنا القرآن بذلك ، فعلينا أنْ نُصدِّق ، وأنْ نأخذ من المشاهد دليلاً على الغَيْب ، وهذا ما جاءتْ به الآية : { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ … } [ الروم : 19 ] . وقوله تعالى هنا الحي والميت أي : في نظرنا نحن وعلى حَدِّ عِلْمنا وفَهمنا للأمور ، وإلا فكُلُّ شيء في الوجود له حياة تناسبه ، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ … } [ القصص : 88 ] . فضدُّ الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ … } [ الأنفال : 42 ] . وما دام كلُّ شيء هالكاً إلا وجهه تعالى ، فكل شيء بالتالي حَيٌّ ، لكنه حي بحياة تناسبه . وأذكر أنهم كانوا يُعلِّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى بالدَّلْك في اتجاه واحد ، وفعلاً شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية . وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى ، أليس هذا مظهراً من مظاهر الحياة ؟ أليست هذه حركة في الجماد الذي نراه نحن جماداً لا حياةَ فيه ، وهو يؤثر ويتأثر بغيره ، وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت ولها قانون . إذن : نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به ، وإنْ كُنَّا لا ندركها لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب ، إنما هي في كل شيء وكَوْنك لا تفقه حياة هذه الأشياء ، فهذه مسألة أخرى . لذلك سيدنا سليمان - عليه السلام - لما سمع كلام النملة ، وكيف أنها تفهم وتقف ديدباناً لقبيلتها ، وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه ، فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم ، وكيف كانت واعية ، وعادلة في قولها . { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 18 ] فهي تعلم أن الجيش لو حطَّم النمل ، فهذا عن غير مقصد منهم ، وعندها أحسَّ سليمان بنعمة الله عليه بأنْ يعلم ما لا يعلمه غيره من الناس ، فقال : { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ . . } [ النمل : 19 ] . فمعنى { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ … } [ الروم : 19 ] أي : في عُرْفنا نحن ، وعلى قَدْر فَهْمنا للحياة وللموت ، والبعض يقول : يعني يُخرج البيضة من الدجاجة ، ويُخرج الدجاجة من البيضة ، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل ، وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة ؟ لا بل لا بُدَّ أنْ تكون بيضة مُخصَّبة . إذن : لا تقُلْ البيضة والدجاجة ، ولكن قُلْ يُخرِج الحي من الميت من كل شيء موجود . ثم يقول سبحانه : { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ … } [ الروم : 19 ] وفي موضع آخر يقول تعالى : { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ … } [ الأنعام : 95 ] فأتى باسم الفاعل مُخْرِج بدلاً من الفعل المضارع . لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن ، يقولون : إنْ كانت إحداهما بليغة ، فالأخرى غير بليغة ، وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم فَهْمهم للغة القرآن ، وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل كلام الله . وهنا نقول : إن الذي يتكلم ربٌّ يعطي لكل لفظة وزنها ، ويضع كل كلمة في موضعها الذي لا تُؤدِّيه كلمة أخرى . فقوله تعالى { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ … } [ الروم : 19 ] هذه في مصلحة مَنْ ؟ في مصلحتنا نحن لأن الإنسان بطَبْعه يحب الحياة ، وربما استعلى بها ، واغترَّ بهذا الاستعلاء ، كما قال ربنا : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . لذلك يُذكِّره ربه تعالى بالمقابل : فأنا كما أُخرج الحيَّ من الميت أُخرِج الميت من الحيِّ فانتبه ، وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبَّر ، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيِّ لحظة . وعبَّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع يُخرِج الدالّ على الاستمرار والتجدُّد ، ومرة باسم الفاعل مُخرِج الدال على ثبوت الصفة وملازمتها للموصوف ، لا مجرد حدث عارض . لذلك تأمل قول الله تعالى : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً … } [ الملك : 1 - 2 ] وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت ، لكن الحق سبحانه يريد أن يقتل في الإنسان صفة الاغترار بالحياة ، فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها ، فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ … } [ الملك : 2 ] . فقدَّم الموت على الحياة ، فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى لا تغترّ بها ولا تَطْغى . ويتجلى هذا المعنى أيضاً في سورة الواقعة : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [ الواقعة : 58 - 60 ] . يعني : خذوا بالكم ، وافهموا أنني واهب الحياة ، وأستطيع أنْ أسلبها فلا تغترَّ بها ولا تتفرعن ، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَدُكَّ في الإنسان صفة الكبرياء والتعالي ، فيُحدث هذه المقابلة دائماً بين ذِكْر الحياة في آيات القرآن الكريم . ثم أَلاَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سبباً من أسباب العمر والسنين ، فواحد يموت قبل أنْ يُولَد ، وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر ، وآخر يموت بعد عدة أعوام ، وآخر بعد مائة عام . إذن : مسألة لا ضابط لها إلا أقدار الله وأجله الذي أجَّله سبحانه ، وفي هذا إشارة للإنسان : احذر فقد تُسْلَب منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيِّ لحظة ، ودون أنْ تدري ودون سابق إنذار أو مقدمات ، فاستقِمْ إذن على منهج ربك ، ولا تجترىء على المعصية لأنك قد تموت قبل أنْ تتدارك نفسَك بالتوبة . لذلك يقولون : إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيَّنه بالإبهام غايةَ البيان ، كيف ؟ قالوا : لأنه سبحانه لو حدَّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه ، إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل لحظة من لحظات حياتك . ثم يقول سبحانه : { وَيُحْي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا … } [ الروم : 19 ] وفي موضع آخر : { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] . فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء ، لا أثرَ فيها لحياة ، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج ، فهي نموذج حيٌّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة . وفي آية أخرى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً … } [ الحج : 63 ] فهل اخضرتْ الأرضُ ساعةَ نزل عليها المطر ؟ لا ، إنما بعد فترة ، كأنه سبحانه يقول لك : لاحظ الحدث ساعة يوجد ، واستحضر صورته ، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضرّ تدريجياً ، وإنْ لم تبذر فيها شيئاً ، ففيها بذور شتَّى حملتْها الرياح ، ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها . والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة ، وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر ، وعُدْنا بعد عدة أيام ، فإذا الأرض تكتسي باللون الأخضر . لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه الإنسان ، وإلاَّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها الإنسان . إذن : هناك زراعات لا دخلَ للإنسان بها . ولنقرأ قصة مريم عليها السلام : { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 42 ] فالاصطفاء الأول لم يقُلْ على مَنْ . فالمعنى : اصطفاكِ على الخَلْق جميعاً ، بأن طَهَّركِ وجعلك صالحة تقية قوَّامة … إلخ . أما الاصطفاء الآخر فليس على الخَلْق جميعاً ، إنما على النساء لأنها تفردتْ عن نساء العالمين بأنْ تلِدَ بغير ذكورة . والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لاحظ على مريم علامات الحمل وهو يعلم مَنْ هي مريم ، وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها ، فلم يرِدْ على ذِهْنه المعنى الثاني ، ويريد أن يستفهم عَمَّا يراه ، فسألها بأدب : يا مريم ، أتوجد شجرة بدون بذرة ؟ فقالت وقد لقَّنها الحق سبحانه : نعم ، الشجرة التي أنبتت أول بذرة . إذن : الحق سبحانه يمتنُّ علينا بالشيء ، ثم يُذكِّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه ، وعلى نقيضه حتى لا نغترَّ به ، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب ، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار ، واقرأ قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [ الواقعة : 58 - 72 ] . ونلحظ في الأداء القرآني في هذه الآيات الدقة في استخدام لام التوكيد في { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً … } [ الواقعة : 65 ] في الحديث عن الزرع لأن للإنسان دوراً فيه ، حيث يحرث ويغرس ويسقي ، وربما ظَنَّ لنفسه قدرة عليه . لكن لما تحدَّث عن الماء ذكر في نقضه { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً … } [ الواقعة : 70 ] بدون توكيد ، لماذا ؟ لأن الماء لا دخلَ لأحد فيه ، ولا يدعيه أحد ، فلا أنت بخرتَ الماء ، ولا أنت أنزلتَ المطر ، لذلك قال : { جَعَلْنَاهُ … } [ الواقعة : 70 ] بدون توكيد . أما عند ذكْر النار كنعمة من نِعَم الله لم يذكر ما ينقضها ، فقال : { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [ الواقعة : 72 ] ولم يقُلْ مثلاً : لو نشاء لأطفأناها ، تُرى لماذا ؟ قالوا : لتظل النارُ ماثلة أمامنا على حال اشتعالها لا تخمد أبداً ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُلوِّح بها لكل عَاصٍ علَّه يعود إلى الجادّة . ثم يقول سبحانه : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [ الروم : 19 ] كذلك : إشارة إلى ما سبق ذِكْره من إحياء الأرض بعد موتها ، كمِثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون ، فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها .