Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 26-26)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نعرف أن مَنْ للعاقل ، ولنا أن نسأل : لماذا خصَّ العاقل مع أن كل ما في الكون خاضع لله طائع مُسبِّح يدخل في دائرة القنوت لله ؟ قالوا : لأن التمرد لا يأتي إلا من ناحية العقل لذلك بدأ الله به ، أما الجماد الذي لا عقلَ له ، فأمره يسير حيث لا يتأبَّى منه شيء على الله ، لا الجماد ولا الحيوان ولا النبات . تأمل مثلاً الحمار تُحمِّله القاذورات فيحمل ، فإذا رقَّيْته وجعلته مطية للركوب لا يعترض ، لا عصى في الأولى ، ولا عصى في الأخرى لأنه مُذلَّل لك بتذليل الله ، ما ذلَّلته لك بعقلك ولا بقوتك { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] . وضربنا لذلك مثلاً بالجمل لما ذلَّله الله لك استطاع الغلام الصغير أنْ يقوده ويُنيخه ويركبه ويحمله ، أما الثعبان الصغير فيُخيفك رغم صِغَره لأن الله لم يُذلِّله لك . ونقف هنا عند قوله تعالى { مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الروم : 26 ] فمن في السماوات نعم هم قانتون لله أي : خاضعون له سبحانه ، مطيعون لإرادته لأنهم ملائكة مُكرَّمون { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] . فما بال أهل الأرض ، وفيهم ملاحدة وكفار ليسوا قانتين ، فكيف إذن نفهم { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ الروم : 26 ] . قالوا : لأنهم لما تمرَّدوا على الله وكفروا به ، أو تمرَّدوا على حكمه فعصَوْه لم يتمردوا بذواتهم ، إنما بما خلق الله فيهم من اختيار ، ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما شذَّ واحد منهم عن مراد ربه ، والله عز وجل لا يريد أنْ يحكم الإنسان بقهر القدرة ، إنما يريد لعبده أنْ يأتيه طواعية مختاراً ، بإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن ، وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع . فلو أرادهم الله مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلاً ، ولعصمهم كما عصم الأنبياء ، ربك يريدك مؤمناً عن محبة وإخلاص لا عن قهر وغلبة لذلك قال إبليس في جداله : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82 - 83 ] . فلا قدرة له على عباد الله المخلصين ، الذين اختارهم الله لنفسه ، ولا سلطانَ له عليهم ، فإبليس إذن ليس في معركة مع ربه ، إنما في معركة مع الإنسان . وفي موضع آخر قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ … } [ الحجر : 42 ] . ولما عشق هؤلاء المتمرِّدون على الله التمرد ، وأحبوه زادهم الله منه وأعانهم عليه لأنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين ، فختم على قلوبهم فلا يدخلها إيمان ، ولا يخرج منها كفر ، وهو سبحانه الغني عن خَلْقه لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ آمنوا ، ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ كفروا ، وترك لنا سبحانه الاختيار : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . وكأن الحق سبحانه يقول لنا : أنتم أحرار ، فأنا مستعد للجزاء على أيِّ حال تسعكم جنتي ، إنْ آمنتم جميعاً ، ولا تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعاً . ونقول لمن تمرَّد على الله : ينبغي أن تكون منطقياً مع نفسك ، وأن تظل متمرداً على الله في كل شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد ، فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه ، وإنْ جاءك الموت ترفضه ، فإذا لم تستطع فأنت مقهور لله خاضع له { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ الروم : 26 ] خاضعون ، إما عن اختيار ، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه ، إذن : فأنت قانت رغماً عنك ، وقنوتك مع تمرُّدك أبلغ في الشهادة لله . إذن : فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار ، وهي الإيمان والتكاليف ، وخاضع لله فيما لا اختيارَ له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية ، فهو يستقبلها عن رضا ، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغماً عنه في الأمور التي لا اختيارَ له فيها ، لكنه يستقبلها بالسُّخْط وعدم الرضا ، فهو كافر بالله كاره لقضائه . فنقول لمن تمرد على الله فكفر به ، أو تمرَّد على أحكامه فعصاها : ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية ؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محلِّه لأن الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الاختيار في كل شيء ، لكن أنْ تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر ، فهذا لا يجوز .