Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 28-28)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ضَرْب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان وللتوضيح وتقريب المسائل إلى الأفهام ، ففي موضع آخر يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . وقال سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ … } [ الحج : 73 ] فهذا كثير من كتاب الله ، والمثَل يُضرب ليُجلِّي حقيقة . والضَّرْب هنا لا يعني إحداث أثر ضار بالمضروب ، إنما إحداث أثر نافع إيجابي كما في قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ المزمل : 20 ] . وقولنا في مسألة سكِّ العملة : ضُرِبَ في كذا ، فكأن الضرب يُحدث في المضروب أثراً باقياً ، ففي الأرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها ، وفي العملة بتَرْكِ أثر بارز لا تمحوه الأيدي في حركة التداول ، وكأن ضَرْب المثَلَ يوضح الشيء الغامض توضيحاً بيِّناً كما تُسَكّ العملة ، ويجعل الفكرة في الذهن قائمة واضحة المعالم . وللضرب عناصر ثلاثة : الضارب ، والمضروب ، والمضروب به . ويُروى في مجال الأمثال أن رجلاً خرج للصيد معه آلاته : الكنانة وهي جُعْبة السهام ، والسهام ، والقوس ، فلما رأى ظبياً أخذ يُعدّ كنانته وقَوْسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفَرَّ هارباً ، فقال له آخر وقد رأى ما كان منه : قبل الرِّماء تُملأ الكنائن ، فصارت مثلاً وإن قيل في مناسبة بعينها إلا أنه يُضرَب في كل مناسبة مشابهة ، ويقال في أيِّ موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نُغيِّر فيه شيئاً . فمثلاً ، حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل الامتحان ، وحين ترى مَنْ يُقدِم على أمر دون أنْ يُعدّ له عُدَّته لك أنْ تقول : قبل الرِّماء تُملأ الكنائن . إذن : هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح ، وترسَّخَتْ في الذِّهْن حتى صارتْ مثَلاً يُضرب . وتقول لمن تسلَّط عليك وادَّعى أنه أقْوى منك : إنْ كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً . والحق سبحانه يضرب لنا المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للأفهام لذلك يقول سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] يقف هنا بعض المتمحكين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله ، يقولون : ما دام الله تعالى لا يستحي أنْ يضرب مثلاً بالبعوضة فما فوقها من باب أَوْلى ، فلماذا يقول { فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد لله عز وجل ، فالمعنى : فما فوقها أي : في الغرابة وفي القلة والصِّغر ، لا ما فوقها في الكِبَر . ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . فالذي يتخذ مع الله إلهاً آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان ، إنما متشاكسان مختلفان ، فإنْ أرضى أحدهما أسخط الآخر ، فهو متعب بينهما ، فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيداً واحداً ؟ كذلك في عبادة الله وحده لا شريك له . فبالمثال اتضحت القضية ، ورسختْ في الأذهان لذلك يقول سبحانه : أنا لا أستحي أنْ أضرب الأمثال لأنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق ، وأُبيِّن لهم المعاني . { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ الروم : 28 ] . في هذه الآية وبهذا المثَل يؤكد الحق - سبحانه وتعالى - في قمة تربية العقيدة الإيمانية ، يؤكد على واحدية الله وعلى أحديته ، فالواحدية شيء والأحدية شيء آخر : الواحدية أنه سبحانه واحد لا فرد آخر معه ، لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مُركّباً من أجزاء ، فوصف نفسه سبحانه بأنه أحدٌ أي : ليس مُركَّباً من أجزاء . أكَّد الله هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين ، وضرب لها المثل . وهنا يضرب لنا مثلاً من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية . وقوله تعالى : { مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ الروم : 28 ] يعني : ليس بعيداً عنكم ، وأقرب شيء للإنسان نفسه ، إذن : فأوضح مثَل لما غاب عنك أنْ يكون من نفسك ، ومن ذلك قوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] أي : من جنسكم تعرفون نشأته ، وتعرفون خُلُقه وسيرته . لكن ، ما المثَل المراد ؟ المثل : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ … } [ الروم : 28 ] . يقول سبحانه : أريد أنْ أضرب لكم مثلاً على أن الإله الواحد يجب عقلاً ألاَّ تشركوا به أشياء أخرى ، والمثل أنِّي أرزقكم ، ومن رزقي لكم مَوَالٍ وعبيد ، فهل جئتم للرزق الذي رزقكم الله وللعبيد وقلتم لهم : أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن ، ثم جعلتم لهم مطلق الحرية والتصرف ، ليكونوا أحراراً أمثالكم تخافونهم في أنْ تتصرفوا دونهم في شيء كخيفتكم أنفسكم ؟ هل فعلتم ذلك ؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم ؟ إذن : لماذا تقبلونه في حق الله تعالى وترضَوْن أنْ يشاركه عبيده في ملكه ؟ إنكم لم تقبلوا ذلك مع مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع الله فائتمروا بأمركم . هذا معنى { مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ الروم : 28 ] أي : من البشر ، فهم مثلكم في الآدمية ، وملكيتكم لهم ليست مُطْلقة ، فأنتم تملكون رقابهم ، وتملكون حركة حياتهم ، لكن لا تملكون مثلاً قتلهم ، ولا تملكون منعهم من فضاء الحاجة ، لا تملكون قلوبهم وإرادتهم ، ثم هو مُلْك قد يفوتك ، كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى بالموت . ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء ، فعَيْب أنْ تجعلوا لله ما تستنكفون منه لأنفسكم . ونلحظ هنا أن الله تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه ، إنما اختار أسلوب الاستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقة : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ الروم : 28 ] . وأنت لا تعدل عن الخبر إلى الاستفهام عنه إلا وأنت تعلم وتثق بأن الإجابة ستكون في صالحك ، فمثلاً حين ينكر شخصٌ جميلَك فتقول مُخبراً : فعلتُ معك كذا وكذا ، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب ، وقد ينكر فيقول : لا لم تفعل معي شيئاً . أمّا حين تقول مستفهماً : ألم أفعل فعل كذا وكذا ؟ فإنك تُلجئه إلى واقع لا يملك إنكاره ، ولا يستطيع أنْ يفرّ منه ، ولا يملك إلا أنْ يعترف لك بجميلك ولا أقلَّ من أنْ يسكت ، والسكوت يعني أن الواقع كما قلت . لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ … } [ الروم : 28 ] لا بدّ أنْ يقولوا : لا ليس لنا شركاء في أموالنا ، إذن : لماذا جعلتم لله شركاء ؟ وقوله تعالى : { فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ الروم : 28 ] سبق أنْ تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا : إن الله تعالى هو الرازق ، ومع ذلك احترم ملكية خَلْقه ، واحترم سعيهم : لأنه سبحانه واهب هذا الملك ، ولا يعود سبحانه في هبته لخَلْقه لذلك لما أراد أنْ يُحنن قلوب خَلْقه على خَلْقه قال : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً … } [ البقرة : 245 ] فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضاً يردّه إليك مُضَاعفاً . والرزق لا يقتصر على المال - كما يظن البعض - إنما رزقك كلّ ما انتفعتَ به فهو رزق ينبغي عليك أن تفيض منه على مَنْ يحتاجه ، وأن تُعدِّيه إلى مَنْ يفتقده ، فالقويُّ رزقه القوة يُعدِّيها للضعيف ، والعالم رزقه العلم يُعدّيه للجاهل ، والحليم رزقه حلْم يُعدِّيه للغضوب وهكذا ، وإلا فالمال أهون ألوان الرزق لأن الفقير الذي لا يملك مالاً ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن يجوع ويُباح له في هذه الحالة أنْ يسأل الناس ، وما رأينا أحداً مات جوعاً . لكن ينبغي على الفقير إنْ ألجأتْه الحاجة للسؤال أنْ يسأل بتلطُّف ولين ، فإنْ كان جائعاً لا يسأل الناس مالاً إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسَّر من الطعام ليسُدّ جَوْعته ، وسائل الطعام لا يكذبه أحد لأنه ما سأل إلا عن جوع ، حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيتَه ما استطاع أنْ يأكل ، أما سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الادخار . إذن : أفضح سؤال سؤال القوت . لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلام : { حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا … } [ الكهف : 77 ] فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقُّوا أنْ يُوصفوا بأَلأَم الناسِ ، وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة ، وإذا رفع أمره إلى القاضي أيَّده القاضي ، لذلك يقولون فيه : طالب قُوتٍ ما تعدَّى . والحق سبحانه تكفَّل لك برزقك ، إنما جعل للرزق أسباباً وكل ما عليك أنْ تأخذ بهذه الأسباب ثم لا تشغل بالك هماً في موضوعه ، وإياك أن تظن أن السَّعْي هو مصدر الرزق ، فالسعي سبب ، والرزق من الله ، وما عليك إلا أنْ تتحرى الأسباب ، فإنْ أبطأ رزقك فأرحْ نفسك لأنك لا تعرف عنوانه ، أمّا هو فيعرف عنوانك وسوف يَأتيك يطرق عليك الباب . والذي يُتعب الناس أنْ يظل الواحد منهم مهموماً لأمر الرزق مُفكِّراً فيه ، ولو علم أن الذي خلقه واستدعاه للوجود قد تكفَّل برزقه لاستراح ، فإنْ أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف يأتيك من ناحية أخرى . ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة وكان صديقاً لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أنْ يتولى هشامٌ الخلافة ، فلما أصبح هشام أميراً للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام ، أما عروة فقد أصابته فاقة ، فلما ضاق به الحال تذكّر صداقته القديمة لهشام ، وما كان بينهما من وُدٍّ ، فقصده في دمشق علَّه يُفرِّج ضائقته . جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له ، فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله أمل في أنْ ينصفه ويجبر خاطره ، لكن هشاماً لم يكن مُوفّقاً في الردِّ على صديقه حيث قال : أتيتَ من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل : @ لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِيني @@ فقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره : جزاك الله عني خيراً يا أمير المؤمنين ، لقد نبَّهتَ مني غافلاً ، وذكَّرتَ مني ناسياً ، ثم استدار وخرج . وعندها أدار هشام الأمر في نفسه وتذكّر ما كان لعروة من وُدٍّ وصداقة ، وشعر بأنه أساء إليه فأنَّبه ضميره ، فاستدعى صاحب الخزانة ، وأمر لعروة بعطية كبيرة ، وأرسل بها مَنْ يلحق به . لكن كلما وصل الرسول إلى محطة وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة ، ودقَّ على عروة بابه ، وكان الرسول لَبِقاً ، فلما فتح عروة الباب قال : ما بكم ؟ قال : رسل هشام ، وتلك صِلَة هشام لك لم يَرْضَ أنْ تحملها أنت خوفاً عليك من قُطاع الطريق ، أو تحمل مؤونة حَمْلها ، فأرسلنا بها إليك . فقال عروة : جزى الله أمير المؤمنين خيراً ، قولوا له لقد ذكرتَ البيت الأول ، ولو ذكرت الثاني لأرحتَ واسترحتَ ، لقد قلت : @ لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِيني أَسْعى إِليْهِ فَيُعْييني تطلبّه ولَوْ قَعَدْتُ أتَاني لا يُعنِّيني @@ ثم يقول سبحانه بعد هذا المثل : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] أي : نُبيِّنها ونُوضِّحها ، بحيث لو عُرضتْ على العقل مجرداً عن الهوى لا ينتهي إلا إليها ، ومعنى { يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] من العقل ، وسُمِّي عقلاً لأنه يعقل صاحبه ويقيده عما لا يليق . والبعض يظن أن العقل إنما جُعل لترتع به في خواطرك ، إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر ، ويضبط السلوك ، يقول لك : اعقل خواطرك وادرسها لا تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب ، بل تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي . إذن : ما قصَّرنا في البيان ولا في التوضيح . ويتجلَّى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه ، وفي وجود رسول الله ، وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول الله بأمور ، فينزل الوحي موافقاً لرأي عمر ، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يلفت أنظارنا إلى أن العقل الفطري إذا فكَّر في أمر بعيداً عن الهوى لا بُدَّ أنْ يصل إلى الصواب وأنْ يوافق حقائق الدين ، أمّا إنْ تدخَّل الهوى فسد الفكر . وقوله تعالى { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] العقل وسيلة من وسائل الإدراك في الإنسان لأن الله تعالى قال : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . لكن ، كيف تُربَّى الأمور العقلية في الناس ؟ تُربَّى عن طريق الحواس والإدراك ، فالعين ترى ، والأذن تسمع ، واللسان يتذوق ، واليد تلمس ، والأنف يشمُّ ، إلى آخر الحواس التي توصلنا إليها كحاسة البين ، وحاسة العضل وغيرها . لذلك احتاط العلماء في تسمية الحواس فقالوا " الحواس الخمس الظاهرة " ليدعوا المجال مفتوحاً لحواس أخرى ، فهذه الوسائل تدرك المعلومات وتنقلها إلى العقل ليراجعها وينتهي فيها إلى قضايا يجعلها دستوراً لحياته ، فأنت تأكل مثلاً العسل فتدرك حلاوته ، وتأكل الجبن فتدرك ملوحته ، فتتكون لديك قضية عقلية أن هذا حلو ، وهذا مالح … إلخ . وحين تستقر هذه القضايا في القلب تصير عقيدة لا تخرج للتفكير مرة أخرى ، ولا تمر على العقل بعد ذلك ، فقد انعقد عليها الفؤاد ، وترسختْ في الذهن . ودَوْر العقل أن يعقل هذه القضايا ، وأنْ يختار بين البدائل ، والأمر الذي لا بديلَ له لا عملَ للعقل فيه ، فلو أنك مثلاً ستذهب إلى مكان ليس له إلا طريق واحد فلا مجال للتكفير فيه ، لكن إنْ كان لهذا المكان أكثر من طريق فللعقل أنْ يفاضل بينها ويختار الأنسب منها فيسلكه . وما دام العقل هو الذي يختار فهو الميزان الذي تَزِن به الأشياء ، وتحكم به القضايا لذلك لا بُدَّ له أنْ يكون سليماً لتأتي نتائجه كذلك سليمة وموضوعية ، ومعلوم أن الميزان يختلف باختلاف الموزون وأهميته . والحق سبحانه يعطينا مثالاً لدقة الميزان في الشمس والقمر ، فيقول { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] أي : بحساب دقيق ، ولولا الدقة فيهما ما أخذناهما ميزاناً للوقت ، فبالشمس نعرف الليل والنهار ، وبالقمر نعرف الشهور . فحين يقول سبحانه { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] يعني : أننا عملنا ما علينا من التفصيل والبيان ، وتوضيح الحجج والبراهين ، ولكن أنتم الذين لا تعقلون . ولما كان العقل هو آلة الاختيار بين البدائل وآلة التمييز أعفى الحق سبحانه مَنْ لا عقل له من التكاليف ، أعفى الطفل الصغير الذي لم يبلغ لأن عقله لم ينضج بعد ، ولأن حواسّه لم تكتمل . وتتجلى حكمة الشارع في قول النبي صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " فجعل من ضمن تكليف الآباء أنْ يُكلِّفوا هم الأبناء في هذه السنِّ ، لتكون لهم دُرْبة على طاعة الأمر والنهي في وقت ليس عليهم تكليف مباشر من الله تعالى . فإذا كبر الصغير يستقبل تكليفي كما استقبل تكليفك أولاً ، وربُّك ما افتات عليك في هذه المسألة ، فأعطاك حق التكليف بالصلاة ، وأعطاك حق أنْ تعاقبه إنْ قصَّر ، فأنت الذي تُكلِّف ، وأنت الذي تعاقب . وأعفى المجنون لأن آلة الاختيار عنده غير سليمة وغير صالحة ، وقلنا : إن علامة النضج في الإنسان أن يصير قادراً على إنجاب مثله ، ومثَّلْنا لذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نضجها ، بحيث إذا أُكِلت زرعتَ بذرتها ، فأنبتت ثمرة جديدة ، وهكذا يحدث بقاء النوع وتستمر الدورة . فربك لا يريد أن تأكل أكلة واحدة ، ثم تُحرم أو يُحرم مَنْ يأتي بعدك ، إنما يريد أنْ تأكل ويأكل كل مَنْ يأتي بعدك ، فلا تأخذ الثمرةُ حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها ، وصلاحيتها للإنبات . وقوله تعالى : { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الروم : 28 ] يدل على أن الذين يتخذون مع الله شركاء غير عاقلين ، وإلا فما معنى عبادة الأصنام أو الأشجار أو الشمس أو القمر ؟ وقد قالوا بألسنتهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ … } [ الزمر : 3 ] . فما هي العبادة ؟ العبادة طاعة العابد لأمر المعبود ونَهْيه ، إذن : بماذا أمرَتْكُم هذه الآلهة ؟ وعَمَّ نهتْكُم ؟ ما المنهج الذي وضعتْه لكم ؟ ماذا أعدتْ لمن أطاعها من النعيم ؟ وماذا أعدتْ لمن عصاها من العذاب ؟ لا شيء إلا أنها آلهة بدون تكاليف ، وما أيسرَ أنْ يعبد الإنسانُ إلهاً لا تكاليف له ، لا يُقيدك فيما تحب من شهوات ، ولا يُحمِّلك مشقة العبادة ، وهنا يتضح عدم العقل . وأيضاً عدم العقل في ماذا ؟ الله خلقك في كون فيه أجناس ، والأجناس تحكمها سلسلة الارتقاء ، فجنس أعلى من جنس ، والجنس الأعلى في خدمة الجنس الأقل . ولو استقرأتَ أجناس الوجود تجد أن معك أيها الإنسان جنساً آخر يشاركك الحسَّ والحركة ، لكن ليس له عقل واختيار بين البدائل لأنه محكوم بالغريزة منضبط بها ، وهذا هو الحيوان الذي لا ينفكُّ عن الغريزة أبداً . وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك بالغريزة الجنسية عند الإنسان وعند الحيوان ، وأن الله تعالى إنما جعلها للتكاثر وحِفْظ النوع ، فالحيوان المحكوم بالغريزة يؤدي هذه المهمة للتكاثر ويقف بها عند حدِّها ، فإذا لقَّح الذكر الأنثى يستحيل أنْ تمكِّنه من نفسها بعد ذلك ، وهو أيضاً يشمُّ رائحة الأنثى ، فإنْ كانت حاملاً ينصرف عنها . أما الإنسان فغير ذلك لأن له شهوة تتحكم فيه ، فالمرأة تتحمل مشقة الحمل وألم الولادة ، ثم تربية المولود إلى أنْ يكبر ، ولولا أن الله تعالى ربط حِفْظ النوع في الإنسان بشهوة هي أعنف شهوات النفس ما أقدمتْ المرأة على الحمل مرة أخرى . وما قُلْناه في غريزة الجنس نقوله في الطعام والشراب ، الحيوان محكوم فيها بالغريزة المطلقة التي لا دَخْلَ للهوى فيها ، فإذا شبع لا يأكل مهما حاولتَ معه ، بل ونرى الحمار الذي نقول عنه إنه حمار لا يأكل عوداً واحداً بعد شِبَعه ، ويمر على النعناع الأخضر مثلاً أو على الملوخية فلا يأكلها ، ويذهب إلى الحشائش اليابسة ، فهو يعرف طعامه بالغريزة التي جعلها الله فيه . أما الإنسان فيأكل حتى التُّخْمة ، ثم لا ينسى بعد ذلك الحلو والبارد والمهضم … الخ ذلك لأنه أسير لشهوة بطنه ، حتى إن من الناس مَنْ يغضب لأنه شبع فهو يريد ألاَّ يفارق المائدة . وقد حدثنا رجال حديقة الحيوان بعد زلزال 1992 أنهم شاهدوا هياجاً في الحيوانات المحبوسة في الأقفاص قبل حدوث الزلزال ، كان أولها الوطواط ، ثم الزرافة ، ثم التمساح ، ثم القرود ، ثم الحمير ، وكأنهم يريدون تحطيم الأقفاص والخروج منها ، بعدها حدث الزلزال . وكذلك ما شاهده أهل أغادير بالدار البيضاء قبل الزلزال الذي وقع بها ، حيث شاهدوا الحمير تفك قيودها ، وتفرّ هاربة إلى الخلاء ، وبعدها وقع الزلزال . إذن : لدى هذه الحيوانات استشعار بالزلزال قبل أن يقع . وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - مثالاً لهذه الغريزة في قصة الغراب الذي علَّم الإنسان كيف يُواري الميت ، فقال تعالى في قصة وَلَدَيْ آدم : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } [ المائدة : 31 ] . نعود إلى حديثنا عن أجناس الكون لبيان عدم عَقْل هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء ، فأجناس الوجود : الإنسان ، ثم الحيوان ، ثم النبات ، ففيه حياة ونمو ، ثم الجماد أقل الموجودات درجةً ، وهو خادم للنبات وللحيوان وللإنسان ، فكل جنس من هذه يخدم الجنس الأعلى منه . فماذا فعل الكفار حينما عبدوا الأصنام ؟ جعلوا الجماد الذي هو أدنى المخلوقات أرقاها وأعظمها ، جعلوه إلهاً يُعْبد ، وهل هناك أقلّ عقلاً من هؤلاء ؟ لذلك يقول الحق سبحانه : { بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ … } .