Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اتبعوا أهواءهم لأنهم اختاروا عبادة مَنْ لا منهجَ له ولا تكليف ، عبدوا إلهاً لا أمر له ولا نهي ، لا يرتب على التقصير عقوبة ، ولا على العمل ثواباً ، وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه . إياك أن تُقدِّم الهوى على العقل لأنك حين تُقدِّم الهوى يصير العقل عقلاً تبريرياً ، يحاول أنْ يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته ، لكن بالعقل أولاً حدِّد الهوى ، ثم اجعل حركة حياتك تبعاً له . والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه ، لكن الهوى الواحد غير مذموم ، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة لأن الهوى الواحد في القلب يُجنِّد القالب كله لخدمة هذا الهوى ، فحين يكون هواى أنْ أذهب إلى مكان كذا ، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية ، فيحدد الطريق ، ويُعد الزاد ، ويأخذ بأسباب الوصول . وهذا الهوى الواحد هو المعنىّ في الحديث الشريف : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه لأن ذلك الهوى يُعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة . أما حين تتعدد الأهواء فَلَك محبوب ، ولي محبوب آخر ، فإنها لا شكَّ تتعارض وتتعاند ، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه ، وأن تتعاضد لا تتعارض ، وأن تتضافر لا تتضارب لأن تضارب الأهواء يُبدِّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها . أمّا إنْ كان هواي هو هواك ، وهو هوى ليس بشرياً ، إنما هوى رسمه لنا الخالق - عز وجل - فسوف نتفق فيه ، وتثمر حركة حياتنا من خلاله { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . وسبق أنْ قُلْنا : إن صاحب الصَّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجاً يُبيِّن طريقة صيانتها ، والحق - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقك ، وهو الذي يُحدِّد لك هواك ، وأول فشل في الكون أن الناس المخلوقين لله يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم . ونقول : هذا لا يصح لأن الذي يُقنِّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط : أولها : أن يكون على علم محيط لا يستدرك عليه ، وأنت أيها الإنسان عِلْمك محدود كثيراً ما تستدرك أنت عليه بعد حين ، ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلاحيته . بل وتتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره ، كما يجب على مَنْ يشرِّع للناس الهوى الواحد أن يكونوا جميعاً بالنسبة له سواء ، وألا ينتفع هو بما يشرِّع ، وإلا لو كانت له منفعة فإنه سوف يميل إلى ما ينفعه ، فلا يكون موضوعياً كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من المذاهب البشرية . والحق - سبحانه وتعالى - هو وحده الذي لا يُستْدرك عليه لأن علمه محيط بكل شيء لا تخْفى عليه خافية ، والخَلْق جميعاً الذين يشرع لهم أمامه سواء ، وكلهم عباده ، لا يحابي منهم أحداً ، ولا يميز أحداً على أحد ، وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ولا ولد . لذلك يطمئننا سبحانه بقوله : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] . وكأن الله تعالى يقول : اطمئنوا ، فربّكم ليس له صاحبة تُؤثِّر عليه ، ولا ولد يُحابيه ، فالصاحبة والولد نقطة الضعف ، وسبب الميْل في مسألة التشريع . وكذلك هو سبحانه لا ينتفع بما يُشرِّعه لنا ، لأنه سبحانه خلقنا بقدرته ، وهو الغني عنَّا لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين ، إذن : فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع ، والمستحق لها سبحانه ، وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخَلْق . وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه لا ينبغي أن تنظر إلى ما أُخِذ منك ، بل قارن بين ما أخذتَ وما أعطيتَ ، فالذي منعك أنْ تعتدي على الآخرين وأنت فرد واحد منع الخَلْق جميعاً أنْ يعتدوا عليك ، فالتشريع إذن في صالحك أنت . إذن : لو عقلنا لأخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو الله - عز وجل - لكن الخيبة أنهم ما استمعوا هذا الكلام وما عقلوه . { بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ الروم : 29 ] ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد ، ونَحَّوْه جانباً ، وأخذوا أهواءً شتى تعارضتْ وتضاربت ، فلم يصلوا منها إلى نتيجة . وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم ، والله تعالى يقول : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية ، وغفلوا عن عاقبة ذلك ، فهم إما كارهون لأنفسهم ، أو يحبونها حباً أحمق ، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه . وقوله تعالى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ … } [ الروم : 29 ] أولاً : ما هو العلم ؟ في الكون قضايا نجزم بها ، فإنْ كان ما نجزم به مطابقاً للواقع ونستطيع أن ندلل عليه - كما نُعلِّم مثلاً الولد الصغير : الله أحد ، فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم ، وإنْ لم يستطع فهي تقليد . وكمن يقول مثلاً : الأرض كروية وهي فعلاً كذلك ، أما مَنْ يكابر حتى الآن ويقول ليست كروية ، والواقع أنها كروية ، فهذا جهل . إذن : نقول ليس الجهل ألاَّ تعلم ، إنما الجهل أنْ تعلم قضية على خلاف الواقع لذلك نُفرِّق بين الجاهل والأمي : الأمي خالي الذِّهْن ليست لديه قضية من أساسه ، فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك دون عناد ، ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة ، فيحتاج منك أولاً لأنْ تُخرِج القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة . فإنْ كانت القضية لا تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها ، فتنظر : إنْ تساوى الإثبات فيها مع النفي فهي الشك ، إذن : فالشكُّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الإثبات والنفي ، فإنْ غلَّبْتَ جانب الإثبات ورجَّحته فهو ظن ، أما إنْ غلَّبت جانب النفي فهو وهم . فعندنا - إذن - من أنواع القضايا : علم ، وجهل وتقليد ، وظن ، ووَهْم . فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها ، مطابقة للواقع ، وعليها دليل ، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة ، وأخذوها بدون أصولها من العلم ، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبُّوا { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ … } [ الروم : 29 ] فقد ألغواْ عقولهم وعطَّلوها وعشقوا الكفر بعد ما سُقْنا لهم الأدلة والبراهين . إذن : لم يَبْقَ إلا أنْ أعينكم على ما تعتقدون ، وأنْ أساعدكم عليه ، فأختم على قلوبكم ، فلا يدخلها إيمان ولا يفارقها كفر ، لأنني رب أعين عبدي على ما يريد . وهكذا يُضِل الله هؤلاء ، بمعنى : يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أنْ عَشِقَوه ، كما قال سبحانه : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [ البقرة : 7 ] . لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة ، ثم لا يَسْلُون ، ولا ينسون ، ويلازمون الحزن ، نحذرهم ونقول لهم : لا تدعوا باب الحزن مفتوحاً ، وأغلقوه بمسامير الرضا ، وإلا تتابعتْ عليكم الأحزان لأن الله تعالى رب يُعين عبده على ما يحب ، حتى الساخط على قدره تعالى . فالمعنى { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ … } [ الروم : 29 ] يعني : مَنْ ينقذه ؟ ومَنْ يضع له قانون صيانته إنْ تخلَّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له ؟ لا أحد . وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه ، بل إن أحد الحكماء يقول : انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر ، ومن الظهر إلى العصر ، فإنْ لم يطاوعك ضلّله - أو أكمل له بقية النهار غِشّاً . وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها ، فلا تدخل إلى العلم بهوى سابق ، بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها ، ثم ابحث القضية بموضوعية ، فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجِّحه أدخله إلى قلبك . والذي يُتعب الناس الآن أن نناقش قضية الإسلام مثلاً وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلاً ، فننتهي إلى نتيجة غير سليمة . ثم يقول سبحانه : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ الروم : 29 ] يعني : يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلَّهم الله فختم على قلوبهم ، فلا يدخلها إيمان ، ولا يخرج منها كفر ، فليس لهم من الله نصير ينصرهم ، ولا مجير يجيرهم من الله ، وهو سبحانه يجير ولا يُجَار عليه . ثم يقول الحق سبحانه : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ … } .