Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 34-34)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يتبادر إلى الذهن أن اللام في { لِيَكْفُرُواْ … } [ الروم : 34 ] لام التعليل ، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سبباً لما قبلها ، كما تقول : ذاكر لتنجح ، وكذلك في الشرط والجواب : إنْ تذاكر تنجح فِعِلَّة المذاكرة النجاح . فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم ؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به ؟ نقول : ليس الشرط سبباً في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة ، بل الجواب هو السبب في الشرط ، لكنهم لم يُفرِّقوا بين سبب دافع وسبب واقع ، فالتلميذ يذاكر لأن النجاح ورد بباله ، وتراءتْ له آثاره الطيبة أولاً فدفعتْه للمذاكرة . إذن : فالجواب سبب في الشرط أي : سبب دافع إليه ، فإذا أردتَ أن يكون واقعاً فقدِّم الشرط ليجيء الجواب . وكما تقول : ركبتُ السيارة لأذهب إلى الأسكندرية ، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للأسكندرية ، لأنك أردْتَ أولاً الذهاب فركبتَ السيارة ، فلما ركبتها وصلتَ بالفعل . إذن : نقول : الشرط سبب للجواب دافعاً يدفع إليه ، والجواب سبب للشرط واقعاً . فهنا نجّاهم الله من الكرب ، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به ، إنما ليُبيِّن لهم أنه لا مفزعَ لهم إلا إليه ، فيتمسكون به سبحانه ، فيؤمن منهم الكافر ، ويزداد مؤمنهم إيماناً ، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك ، لقد كفروا بالله لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي : أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - لو ضممتَ طفلاً مسكيناً إلى حضانتك وربَّيته أحسن تربية ، فلما شبَّ وكَبِر تنكّر لك ، واعتدى عليك ، فقلت للناس : ربَّيته ليعتدي عليَّ ، والمعنى : ربَّيته ليحترمني ويحبني ، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك ، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربَّى ، وعلى لُؤْم وفساد طبع الذي رُبِّي . فالأسلوب هنا { لِيَكْفُرُواْ … } [ الروم : 34 ] يحمل معنى التقريع لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها ، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام : أذاقهم الرحمة ، ونجاهم ليؤمنوا ، أو ليزدادوا إيماناً ، فما كان منهم إلا أنْ كفروا . ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى في قصة موسى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً … } [ القصص : 8 ] . ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين ، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل ، وكما يقولون في الأمثال بيربي خنَّاقه . فهذا دليل على غفلة الملتقِط ، وعلى غبائه أيضاً ، فكيف وهو يُقتِّل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر ؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل ؟ لكن كما قال سبحانه : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . فأنت تُقتِّل في الأطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون ، فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك ، وستأخذه وتُربِّيه في حضنك ، وسيكون زوال مُلْكك على يديه ، فلا تظن أنك تمكر على الله . والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين ، فإذا كنتَ قد صدَّقْتَ العرافين فيما أخبروك به فما جدوى قَتْل الأطفال ، وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه ؟ فلماذا تحتاط إذن ؟ لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر رباً ، والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي عليه ، وهو سبحانه خير الماكرين ، والمكْر الحق أن يكون خُفْية بحيث لا يشعر به الممكور به . وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول : الصراحة مكْر القرن العشرين . يعني : مَنْ أراد أنْ يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحاً لأننا أصبحنا في زمن قلَّتْ فيه الصراحة وقول الحق ، لدرجة أنك حين تُحدِّث الناس بالحق يشكُّون فيك ، ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق ، كالذي قال لجماعة يطلبونه ليقتلوه : أنا سأذهب إلى المكان الفلاني في الوقت الفلاني فقالوا : إنه يُضلِّلنا ويمكر بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به . وبعد أنْ تربَّى موسى - عليه السلام - في بيت فرعون ، ثم كلَّفه ربه بالرسالة ، وذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله قال له : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] . نعم ربَّيتني وليداً ، لكن الذي ربّاني وربّاك هو الذي بعثني إليك ، فأنا أبرّ المربي الأعلى قبل أنْ أبرَّ بك ، وفي هذا إشارة إلى أن عناية الله هي الأصل في تربية مَنْ تحب ، فإياك أنْ تقول : ربَّيْتُ ولدي حتى صار كذا وكذا ، بل عليك بالأَخْذ بأسباب التربية ، وتترك المربِّي الأعلى هو الذي يُربِّي على الحقيقة . وهذا المعنى فطن إليه الشاعر ، فقال : @ إذَا لَمْ تُصَادِفْ في بَنِيكَ عنَايةً فَقَدْ كذَبَ الرَّاجي وخَابَ المؤملُ فَمُوسَى الذي ربَّاه جِبْريلُ كَافرٌ ومُوسَى الذي ربَّاهُ فِرْعَونُ مُرسَل @@ ثم يقول سبحانه : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الروم : 34 ] لأنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا لأن للإيمان مطلوبات صعبة تشقُّ على النفس ، فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك ، وينهاك عن الشيء المحبب إليها ، أما الأصنام التي عبدوها من دون الله وغيرها من الآلهة فلا مطلوبَ لها ولا منهج . لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل لأن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فلا تقُلْ إنها ممتدة من آدم إلى قيام الساعة ، فهذا العمر الطويل لا يعنيك في شيء ، الذي يعنيك عمرك أنت . ومهما كان عمر الإنسان في الدنيا فهو قصير وتمتُّعه بها قليل ، ثم إن هذا العمر القصير مظنون غير مُتيقن ، فربما داهمك الموت في أيِّ لحظة ، ومَنْ مات قامت قيامته . لذلك أبهم الحق - سبحانه وتعالى - الموت ، ونثر أزمانه في الخَلْق : فهذا يموت قبل أن يولد ، وهذا يموت طفلاً ، وهذا يموت شاباً . . الخ وإبهام الموت سبباً وموعداً ومكاناً هو عَيْن البيان لأنه أصبح شاخصاً أمام كل مِنَّا ينتظره في أيِّ لحظة ، فيستعد له . ونلحظ هنا أن الأسلوب القرآني عطف فعل الأمر { فَتَمَتَّعُواْ … } [ الروم : 34 ] على الفعل المضارع { لِيَكْفُرُواْ … } [ الروم : 34 ] ، وفي موضع آخر قال سبحانه : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ … } [ العنكبوت : 66 ] فجعل التمتُّع ليس خاضعاً لفعل الأمر ، إنما للعلة : ليكفروا وليتمتعوا . لذلك اختلفوا حول هذه اللام . أهي للأمر أم للتعليل ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الروم : 34 ] جاءت بعد { فَتَمَتَّعُواْ … } [ الروم : 34 ] وهذه جاءتْ معطوفة على { لِيَكْفُرُواْ … } [ العنكبوت : 66 ] فكأنه قال : اكفروا وتمتعوا ، لكن ستعلمون عاقبة ذلك . والذي جعلهم يقولون عن اللام هنا لام التعليل أنها مكسورة ، أما لام الأمر فساكنة ، فلما رأوا اللام مكسورة قالوا لام التعليل ، أما الذي فهم المعنى منهم فقال : ما دام السياق عطف فعل الأمر فتمتعوا على المضارع المتصل باللام ، فاللام للأمر أيضاً ، لأنه عطف عليها فعل الأمر ، وهو هنا للتهديد . لكن ، لماذا كُسِرَتْ والقاعدة أنها ساكنة ؟ قال أحد النحاة : لام الأمر ساكنة ، ويجوز أنْ تُكْسَر ، واستشهد بهذه الآية { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ … } [ العنكبوت : 66 ] . ونقول لمن يقول : إنها لام التعليل : إذا سمعت لام التعليل فاعلم أنها تعني لام العاقبة لأن الكفر والتمتّع لم يكُنْ سبباً في إذاقة الرحمة . ويا مَنْ تقول لام الأمر سيقولون لك : لماذا كُسِرت ؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد تُكسر ، واقرأ قوله تعالى : { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ … } [ الحج : 28 ] فاللام هنا مكسورة لأنها لام التعليل . ثم قال بعدها : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] فاللام سُكِّنَتْ لأنها لام الأمر . وفي آية أخرى جُمِعت اللامان : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ … } [ الطلاق : 7 ] فجاءتْ لام الأمر مكسورة لأنها في أول الجملة ، ولا يُبتدأ في اللغة بساكن ، فحُرِّكت بالكسر للتخلص من السكون ، ثم يقول سبحانه : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ … } [ الطلاق : 7 ] فجاءت لام الأمر ساكنة لأنها واقعة في وسط الكلام . لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كُتَّاب المصحف ، وأن يعلموا أن كلام الله غالب ، فقد فات أصحاب رسم المصحف أنه مبنيٌّ من أوله إلى آخره على الوصل ، حتى في آخر آيات سورة الناس وأول الفاتحة نقول { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـم … } . فآخِرُ القرآن موصول بأوله ، حتى لا ينتهي أبداً . وعليه فلا ترسم { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ … } [ الطلاق : 7 ] بالكسر ، إنما بالسكون ، لأنها موصولة بما قبلها . وكلمة { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الروم : 34 ] تدلُّ على التراخي واستيعاب كل المستقبل ، سواء أكان قريباً أم بعيداً ، فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة ، أو سيموت بعده بوقت طويل . ثم يقول الحق سبحانه : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً … } .