Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 48-48)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق سبحانه يعطينا هنا مذكرة تفصيلية لعملية حركة الرياح ، وسَوْق السحاب ، وإنزال المطر ، وكلمة الرياح إذا جُمعَتْ دلَّتْ على الخير كما في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ … } [ الحجر : 22 ] . أي : تُلقِّح النباتات فتأخذ من الذكَر ، وتضع في الأنثى ، فيحدث الإثمار ، ومن عجيب هذه العملية أن ترى الذكر والأنثى في العود الواحد كما في نبات الذرة مثلاً ، ففي الشُّوشة أعلى العود حبات اللقاح الذكر ، وفي الشعيرات التي تخرج من الكوز متصلة بالحبات توجد أعضاء الأنوثة ، ومع حركة الرياح تتناثر حبات اللقاح من أعلى وتنزل على هذه الشعيرات ، فتجد الشعيرة التي لُقحت تنمو الحبة المتصلة بها ، أما الأخرى التي لا يصلها اللقاح فتموت . ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهبِّ الريح أو ناحية بحري أقلّ محصولاً من التي تليها ، لماذا ؟ لأن الرياح تحمل حبَّات لقاحها إلى العيدان الأخرى التي تليها ، فيزداد محصولها . فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من الأنثى كالنخيل ، والجميز مثلاً ، فأين الذكر والأنثى في القمح ، أو في الجوافة ، أو في الموز . ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما صَغُرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة تتناثر مع الرياح ، ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة لذلك ترى الجبال والصحراء تخضرّ بعد نزول المطر ، فمَنْ بذر فيها هذه البذور ؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل . ولنا وَقْفة عند قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ … } [ الشورى : 33 ] أي : السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء لا يحركها شيء ، فإنْ قُلْت : كيف نفهم هذا المعنى الآن مع تقدم العلم الذي سيَّر السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء ، واستغنى عن الرياح ؟ ونقول : الرياح من معانيها الهواء ، وهي أيضاً تعني القوة مطلقاً ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ … } [ الأنفال : 46 ] أي : قوتكم ، فالريح تعني القوة على أيِّ وضع ، سواء أسارتْ بالرياح أو بالآلة ، فهو سبحانه قادر على أنْ يُسكنها . لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية ، وقوة آتية ، آنية يعني الآن ، وآتية تأتي فيما بعد ، وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له نَفَس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه مهمة كلاب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلاً ، فالشخص له رائحة الآن وهو موجود ، وله رائحة تظلّ في المكان حتى بعد أنْ يفارقه . لذلك يُعلِّمنا القرآن أن الريح هو أثبت الآثار في الإنسان ، واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف ويعقوب عليهما السلام : { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً … } [ يوسف : 93 ] . وكان يوسف في مصر ، ويعقوب في أرض فلسطين ، فلما فصلت العير بقميص يوسف ، وخرج من نطاق المباني التي ربما حجزتْ الرياح ، قال يعقوب { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ … } [ يوسف : 94 ] على بُعْد ما بينهما من المسافات . وإذا أُفردت الرياح دلَّتْ على الشر ، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا … فتأتيك بالأكسوجين أينما كان ، وتحمل إليك عبير العطور في الكون ، فهي إذن تأتيك بالفائدة . وقلنا : إن الأشياء الثابتة اكتسبتْ الثبات من وجود الهواء في كُلِّ نواحيها وجهاتها ، ولو فرَّغْتَ الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لانهارتْ في الحال ، كذلك الريح إنْ جاءت مفردة فهي مدمرة ، وفيها العطب كما في قوله تعالى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [ الذاريات : 41 ] . وقال : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] . فقوله تعالى : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ … } [ الروم : 48 ] فإرسال الرياح في ذاته نعمة { فَتُثِيرُ سَحَاباً … } [ الروم : 48 ] إثارة السحاب أي : تهيجه وتحركه ، وهذه نعمة أخرى . والسحاب عبارة عن الماء المتبخِّر من الأرض ، وتجمُّع بعضه على بعض في طبقات الجو ، وماء المطر ماء مُقطر بقدرة الله ، كما نُجِري نحن عملية التقطير في المعامل مثلاً ، فيأتينا المطر بالماء العَذْب النقي الزلال الذي قطرته لنا عناية الخالق سبحانه دون أنْ ندري . وإذا كان تقطير كوب واحد يحتاج إلى كل هذه العمليات ، وكل هذه التكلفة ، فما بالك بماء المطر ؟ وسبق أنْ قُلْنا : إن من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل ثلاثة أرباع اليابسة ماء لتتسع رقعة البَخْر ليكفي الربع الباقي ، وضربنا لتوضيح ذلك مثلاً بكوب الماء حين تتركه على المنضدة مثلاً ، وحين تسكبه في أرض الغرفة ، ففي الحالة الأولى يظل الماء فترة طويلة لأن البَخْر قليل ، أما في الأخرى فإنه سرعان ما يتبخر . ثم يقول سبحانه : { فَيَبْسُطُهُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ … } [ الروم : 48 ] وانظر إلى طلاقة المشيئة ، فالمطر يصرفه الله كيف يشاء إلى الأماكن التي تحتاج إلى مطر ، ومن العجيب أن الله تعالى حين يريد أن يرزق إنساناً ربما يرزقه من سحاب لا يمر على بلده ، وانظر مثلاً إلى النيل ، من أين يأتي ماؤه ؟ وأين سقط المطر الذي يروي أرض النيل من أوله إلى آخره ؟ ومعنى { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً … } [ الروم : 48 ] كسفا : جمع كِسْفة ، وهي القطعة { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ … } [ الروم : 48 ] المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ … } [ الروم : 48 ] أي : من بين هذه السحب . { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الروم : 48 ] والإصابة قد تكون مباشرة ، فيهطل المطر عليهم مباشرة ، وقد تكون غير مباشرة بأنْ تكون الأرض منحدرة ، فينزل المطر في مكان ويسقي مكاناً آخر ، بل ويحمل إليه الخِصْب والنماء ، كما كان النيل في الماضي يحمل الطمي من الحبشة إلى السودان ومصر . وكان هذا الطمي يستمر مع الماء طوال مجرى النيل وإلى دمياط ، فلماذا لم يترسب طوال هذه المسافات ؟ لم يترسب بسبب قوة دفع الماء وشدة انحداره ، بحيث لا يستقر هذا الطمي ولا يترسب . وقوله : { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الروم : 48 ] لأن الرياح حين تمر عليهم تُبشِّرهم بالمطر ، وحين ينزل المطر يُبشِّرهم بالزرع والنماء والخِصْب والخير ، كما قال تعالى : { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] . وأذكر وأنا صغير وبلدنا على النيل ، والنيل من أمامها متسع ، وبه عدة جزر يزرعها الناس ، فأذكر أننا كنا نزرع الذرة ، وجاء الفيضان فأغرقه وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد ، وكان الناس يذهبون إليه ويجمعونه بالقوارب ، ورأيت النساء تزغرد والفرحة على الوجوه ، فكنت أسأل أبي رحمه الله : النيل أغرق الزرع . فلماذا تزغرد النساء ؟ فكان والدي يضحك ويقول : تزغرد النساء لأن النيل أغرق الزرع ، وهذا هو مصدر الخير ، وسبب خصوبة الأرض ، فلما كبرتُ وقرأت قصيدة أحمد شوقي رحمه الله في النيل : @ مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرَى تتدفَّقُ وبأيِّ كَفٍّ في المدائن تُغدِق الماءُ تُرسِلُه فيصبح عَسْجداً والأرض تُغرقُها فيحيَا المغرَق @@ لما قرأتُ هذه القصيدة عرفت لماذا كانت النساء تزغرد حين يُغرق النيلُ الزرعَ . والاستبشار لنزول المطر يأتي على حسب الأحوال ، فإن جاء بعد يأس وقحط وجفاف كانت الفرحة أكبر ، والاستبشار أبلغ حيث يأتي المطر مفاجئاً { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الروم : 48 ] أما إنْ جاء المطر في الأحوال العادية فإن الاستبشار به يكون أقلَّ . ثم يقول سبحانه : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ … } .