Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 15-15)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين ، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدرَك ، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله ، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما ، فسأل : كيف لو أمراني بالكفر ، أأكفر طاعةً لهما ؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة . وفي آية العنكبوت : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 8 ] . فذكر فيها حُسنْاً ولم يقل فيها { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] فكأن كلمة الحُسْن ، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف . ومعنى { جَاهَدَاكَ … } [ لقمان : 15 ] نقول : جاهد وجهد ، جهد أي في نفسه ، أما جاهد ففيها مفاعلة مع الغير ، نقول : جاهد فلان فلاناً مثل قاتل ، فهي تدل على المشاركة في الفعل ، كما لو قلت : شارك عمرو زيداً ، فكل منهما فاعل ، وكل منهما مفعول ، لكن تغلب الفاعلية في واحد ، والمفعولية في الآخر . فمعنى { وَإِن جَاهَدَاكَ … } [ لقمان : 15 ] لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله ، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتهما في الشرك بالله ، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك { فَلاَ تُطِعْهُمَا … } [ لقمان : 15 ] . ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما ، أو قطع الرحم ، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] ثم إنهما كفرا بي أنا ، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً . وقوله تعالى : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ … } [ لقمان : 15 ] أي : لن تكون وحدك ، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ … } [ لقمان : 15 ] أي : مأواكم جميعاً . قالوا : إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خالي سعد ، فليُرني امرؤ خاله " ولما أسلم سعد غضبت أمه - وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل ، وأنْ تتعرَّى في حَرِّ الشمس حتى يرجع دينه ، فلما علم سعد بذلك قال : دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ ، ولو عضَّها العطش لشربتْ ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه ، فنزلت : { وَإِن جَاهَدَاكَ … } [ لقمان : 15 ] . ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغيره من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره ، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود . وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الأرض : " رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم ، فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء : رب ائذن لي أن أسقط كسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ، ومنع شكرك … الخ ، فقال الحق تبارك وتعالى : لو خلقتموهم لرحمتموهم " . ذلك لأنهم عباد الله وصَنْعته ، وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطِّم صنعته ، وجاء في الحديث النبوي : " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره ، وقد أضله في أرض فلاة " . إذن : فنِعْمَ الرب هو . ويُروى أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - جاءه ضيف ، فرأى أن سَمْته غير سَمْت المؤمنين ، فسأله عن دينه فقال : إنه من عُبَّاد النار ، فردَّ إبراهيم الباب في وجهه ، فانصرف الرجل ، فعاتب الله نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال : يا إبراهيم ، تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة ، وقد وَسِعْتُه طوال عمره ، وهو كافر بي ؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به ، وأخبره بما كان من عتاب الله له ، فقال الرجل : نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه ، ثم شهد ألاَّ إله إلا الله . فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن الله يوصي به وهو كافر ، ويُرقِّق له القلوب لَعاد إلى ساحة الإيمان بالله لذلك كثيراً ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون الإسلام فيختارونه ، فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم : كُنْ في دينك الجديد أبرَّ بهم من دينك القديم ، ليعلموا محاسن دينك ، فضاعف لهم البر ، وضاعف لهم المعروف ، لعل ذلك يُرقِّق قلوبهم ويعطفهم نحو دينك . وتأمل عظمة الأسلوب في { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] فلم يقل مثلاً أعطهم معروفاً ، إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقُّد شأنهما ، بحيث يعرف الابن حاجة أبويْه ، ويعطيهما قبل أنْ يسألا ، فلا يلجئهما إلى ذُلِّ السؤال ، وهذا في ذاته إحسان آخر . كالرجل الذي طرق بابه صديق له ، فلما فتح له الباب أسرَّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى صديقه ما طلب ، ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته : لم تبكي وقد وصلْته ؟ فقال : أبكي لأنني لم أتفقد حاله فأعطيه قبل أن يذَّل نفسه بالسؤال . والحق - تبارك وتعالى - حين يقول بعد الوصية بالوالدين : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ لقمان : 15 ] إنما لينبهنا أن البرَّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك ، إنما سيُكتب لك ، وسيكون في ميزانك لأنك أطعتَ تكليفي وأمري ، وأدَّيْتَ ، فلك الجزاء لأنك عملتَ عملاً إيمانياً لا بُدَّ أن تُثاب عليه .