Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰبُنَيَّ … } [ لقمان : 16 ] نداء أيضاً للتلطف والترقيق { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ … } [ لقمان : 16 ] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه ، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية ، وكأنه يقول له : إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على الله تعالى { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . وكما أن الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل ، حتى إن كانت في باطن صخرة ، أو في السماوات ، أو في الأرض ، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دَقَّتْ ، ومهما حاول صاحبها إخفاءها . وقلنا : إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خَلْقه ، وعند قوله تعالى : { يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] يقولون : الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم ، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر ، وهو معلوم للجميع ؟ ونقول : الحق سبحانه في قوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [ الأنبياء : 110 ] لا يخاطب فرداً ، إنما يخاطب جماعة ، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد ، ومثَّلْنا لذلك بمظاهرة مثلاً ، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى ، منها ما يعاقب عليه القانون ، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها ، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها ؟ إنك لا تستطيع ، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع ، أما الحق - تبارك وتعالى - فيعلم كل كلمة ، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه . إذن : من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر ، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ . وقوله تعالى { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ … } [ لقمان : 16 ] أي : وزن حبة الخردل ، وكانت أصغر شيء وقتها ، فجعلوها وحدة قياس للقلة ، وليس لك الآن أن تقول : وهل حبة الخردل أصغر شيء في الوجود ؟ فالقرآن ذكرها مثالاً للصِّغَر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله ، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقلَّ منها . لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد أي الجزء الذي لا يتجزأ ، واستطاعوا تفتيت الذرة ، ظنوا أن في هذه العملية مأخذاً على القرآن ، فقد ذكر القرآن الذرة ، وجعلها مقياساً دينياً في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] لكن لم يذكر الأقلَّ منها ، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله . ونقول : قرأتم شيئاً وغابت عنكم أشياء ، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطاً لما توصلتم إليه ، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد ، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . بل نقول : إن الاحتياط هنا احتياط مركب ، فلم يقل صغير إنما قال أصغر وهذا يدل على وجود رصيد في كلام الله لكل مُفتّت من الذرة . وقوله : { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ … } [ لقمان : 16 ] { فِي صَخْرَةٍ … } [ لقمان : 16 ] أي : على حبكة الوجود ، وفي أضيق مكان { أَوْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ … } [ لقمان : 16 ] يعني : في المتسع الذي لا حدود له ، فلا في الضيِّق المحكم ، ولا في المتسع يخفى على الله شيء { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ … } [ لقمان : 16 ] واستصحب حيثيات الإتيان بها بوصفين لله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] . وجمع بين هاتين الصفتين لأنك قد تكون خبيراً بالشيء عالماً بمكانه ، لكنك لا تستطيع الوصول إليه ، كأنْ يكون في مكان ضيق لا تنفذ إليه يدك ، وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلاً ، فالخبرة موجودة ، لكن ينقصك اللطف في الدخول . والحق - سبحانه وتعالى - لطيف ، فمهما صَغُرت الأشياء ودقَّتْ يصل إليها ، فهو إذن عليم خبير بكل شيء مهما صغر ، قادر على الإتيان به مهما دقَّ لأنه لطيف لا يمنعه مانع ، فصفة اللطف هذه للتغلغل في الأشياء . ونحن نعلم أن الشيء كلما دقَّ ولَطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة ، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمَنْ بنى بيتاً في الخلاء ، وأراد أنْ يؤمِّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة ، فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة ، ثم تذكّر الفئران والثعابين فضيّق الحديد ، ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ ، إذن : كلما كان عدوك لطيفاً دقيقاً كان أعنف ، واحتاج إلى احتياط أكثر . فقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] يعني : لا يعوزه علم بالمكان ، ولا سهولة ويُسْر في الوصول إلى الأشياء . كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده ، ولم يأمره حتى الآن بشيء من التكاليف ، إنما حرص أنْ يُنبهه : أنك قد آمنت بالله وبلغَك منهجه واستمعت إليه ، فأطع ذلك المنهج في افعل ولا تفعل ، لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولا يغيب عنه شيء ، فادخل على المنهج بهذا الاعتقاد . وإياك أنْ تتغلَّب عليك شبهة أنك لا ترى الله ، فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ، واعلم أن عملك محسوب عليك ، وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة ، أو في سماء ، أو في أرض شاسعة . ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي : " يا عبادي : إنْ كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم ، وإنْ كنتم تعتقدون أنِّي أراكم ، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم ؟ " . بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف ، فيقول له : { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ … } .