Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 18-18)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى : تصعر من الصَّعَر ، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته ، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخدِّه ، ويُعرض عن الناس تكبّراً ، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر فلان ماشي لاوي رقبته . فقول الله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ … } [ لقمان : 18 ] واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه يُنبِّهنا أن التكبُّر وتصعير الخدِّ داء ، فهذا داء جسدي ، وهذا داء خلقي . وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال : @ فَدَعْ كُلَّ طَاغِيةٍ للزَّمانِ فإنَّ الزمانَ يُقيم الصَّعَر @@ يعني : إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر ، فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه ، وكثيراً ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا ، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياماً أو قعوداً ، بل لا يستطيع أنْ يذب الطير عن وجهه . والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين ، بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوَّم من صَعره ، ومثَّلنا لذلك بـ فتوة الحارة الذي يجلس على القهوة مثلاً واضعاً قدماً على قدم ، غير مُبَال بأحد ، فإذا دخل عليه فتوة آخر أقوى منه نجده تلقائياً يعتدل في جلسته . وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول اتق شر من أحسنت إليه لماذا ؟ لأن الذي أحسنتَ إليه مرتْ به فترة كان ضعيفاً محتاجاً وأنت قوي فأحسنتَ إليه ، وقدَّمْتَ له المعروف الذي قوّم حياته فأصبح لك يَدٌ عليه ، وكلما رآك ذكَّرته بفترة ضعفه ، ثم إن الأيام دُوَل تدور بين الخَلْق ، والضعيف يصبح قوياً ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه ، لكنه لا بُدَّ أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه ، وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُلُوِّه وكبريائه لذلك قبل : اتق شر من أحسنت إليه . ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبَّر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له ، وإذا رأيتَ في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك ، وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلاً . لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها ، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال ، فقالت سيدتها : لكني مشفقة عليك لأنك سوداء لن ينظر أحد إليك ، فقالت الجارية : يا سيدتي ، اذكري أن حُسْنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قُبْحي - فالذي تراه أنت قبيحاً هو في ذاته جميل ، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة - ثم قالت : يا هذه ، لا تغضبي الله بشيء من هذا ، أتعيبين النقش ، أم تعيبين النقاش ؟ ولو أدركت ما فيَّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة . ويقول الشاعر في هذا المعنى : @ فَالوَجْه مِثْلُ الصُّبْح مُبيضُّ والشَّعْر مثْل الليْل مُسْوَدُّ ضِدَّانِ لما اسْتجْمعَا حَسُنَا والضِّد يُظْهِر حُسْنَهُ الضِّدُّ @@ والله تعالى يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ … } [ الحجرات : 11 ] . فإذا رأيتَ إنساناً دونك في شيء ففتش في نفسك ، وانظر ، فلا بُدَّ أنه متميز عليك في شيء آخر ، وبذلك يعتدل الميزان . فالله تعالى وزَّع المواهب بين الخَلْق جميعاً ، ولم يحابِ منهم أحداً على أحد ، وكما قلنا : مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر . وسبق أن ذكرنا أن رجلاً قال للقمان : لقد عرفناك عبداً أسود غليظ الشفاه ، تخدم فلاناً وترعى الغنم ، فقال لقمان : نعم ، لكني أحمل قلباً أبيض ، ويخرج من بين شفتيَّ الغليظتين الكلام العذب الرقيق . ويكفي لقمان فخراً أن الله تعالى ذكر كلامه ، وحكاه في قرآنه وجعله خالداً يُتْلى ويُتعبَّد به ، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه . ولنا مَلْحظ في قوله تعالى { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ … } [ لقمان : 18 ] فكلمة للناس هنا لها مدخل ، وكأن الله تعالى يقول لمن يُصعِّر خده لا تَدْعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبُّرك عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم ، فقد تصادف قليلَ الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبراً متعالياً وهو حقير متواضع ، فإنْ كنت محترف صَعَر و كييف تكبُّر ، فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك ، كأن تقف أمام المرآة مثلاً وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك هذا الداء . فكأن كلمة { لِلنَّاسِ … } [ لقمان : 18 ] تعني : أن الله تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم . ثم يقول لقمان : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً … } [ لقمان : 18 ] المرح هو الاختيال والتبختر ، فربُّكَ لا يمنعك أنْ تمشي في الأرض ، لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس ، المختال بنفسه ، والله تعالى يأمرنا : { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } [ الملك : 15 ] . فالمشي في الأرض مطلوب ، لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْياً سوياً معتدلاً ، فعمر - رضي الله عنه - رأى رجلاً يسير متماوتاً فنهره ، وقال : ما هذا التماوت يا هذا ، وقد وهبك الله عافية ، دَعْها لشيخوختك . ورأى رجلاً يمشي مشية الشطار - يعني : قُطَّاع الطرق - فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي . إذن : المطلوب في المشي هيئة الاعتدال ، لذلك سيأتي في قول لقمان : { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ … } [ لقمان : 19 ] يعني : لا تمشِ مشية المتهالك المتماوت ، ولا تقفز قفز أهل الشر وقُطَّاع الطريق . { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ لقمان : 18 ] المختال : هو الذي وجد له مزية عند الناس ، والفخور الذي يجد مزية في نفسه ، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك لأنه سبحانه يريد أنْ يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربُّ الجميع ، وهو سبحانه المتكبِّر وحده في الكون ، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبَّر علينا غيره ، على حدِّ قول الناظم : @ والسُّجُود الذي تَجْتويه من أُلُوفِ السُّجُودِ فيه نَجَاةُ @@ فسجودنا جميعاً للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل متكبر ومتجبر ، فكأن كبرياء الحق - تبارك وتعالى - في صالح العباد . ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام : { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ … } .