Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 19-19)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القصد : هو الإقبال على الحدث ، إقبالاً لا نقيضَ فيه لطرفين ، يعني : توسطاً واعتدالاً ، هذا في المشي { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ … } [ لقمان : 19 ] أي : اخفضه وحَسْبك من الأداء ما بلغ الأذن . لكن ، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت ؟ قالوا : لأن للإنسان مطلوبات في الحياة ، هذه المطلوبات يصل إليها ، إما بالمشي - فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض - وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي . إذن : إما تذهب إلى مطلوبك ، أو أنْ تستدعيه إليك . والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء لأن كل شيء له طرفان لا بُدَّ أن يكون في أحدهما مبالغة ، وفي الآخرة تقصير لذلك قالوا : كلا طرفي قصد الأمور ذميم . ثم يقول سبحانه مُشبِّهاً الصوت المرتفع بصوت الحمار : { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [ لقمان : 19 ] والبعض يفهم هذه الآية فهماً يظلم فيه الحمير ، وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء وبالذلة ، لذلك يقول الشاعر : @ وَلاَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ هذا على الخسفْ مربوطٌ برمته وذَا يُشَدُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَد @@ ونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي - والمراد الحمار - بالذلة ، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا أذلّ من وتد لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين ، فلا يعترض عليك ، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد ، فالحمار مُسخّر ، وليس ذليلاً ، بل هو مذلَّل لك من الله سبحانه . ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر ، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات ، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك ، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السِّرْج ، وفي فمه اللجام ، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض . وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق : أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلاً ، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق ، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته . لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [ لقمان : 19 ] فنهيق الحمار ليس مُنكَراً من الحمار ، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار ، فكأن نهيق الحمار كمال فيه ، وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك ، وإلا فما ذنب الحمار ؟ إنك تلحظ الجمل مثلاً وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمَّلته حِمْلاً فإنه ينعَّر إذا ثقل عليه ، أما الحمار فتُحمِّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضاً ، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلاً إلى القناة فإنْ كانت في طاقته قفز ، وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها . أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَلا يطيق . ويُقال : إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطاناً ، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه ، وأنها تقطِّع قيودها وتفرّ إلى الخلاء ، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب ، ولاحظناه في زلزال عام 1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال . ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلاً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ تُوجِّهه أنت ، ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدَّاه ، لكن المتحاملين على الحمير يقولون : ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف ، إنما يضع الخطوة على الخطوة ، ونحن نقول : بل يُمدح الحمار حتى وإنْ لم يتصرف لأنه محكوم بالغريزة . كذلك الحال في قول الله تعالى : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً … } [ الجمعة : 5 ] . فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد ؟ المعنى : حملوها أي : عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم ، ولم يحملوها أي : لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها ، مثَلهم في ذلك { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً … } [ الجمعة : 5 ] فهل يُعَدُّ هذا ذَماً للحمار ؟ لا ، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب ، إنما يُذَمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب الله ولا يعملوا به ، فالحمار مهمته أنْ يحمل ، وأنت مهمتك أنْ تفقه ما حملت وأنْ تؤديه . فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يُعلِّمنا الحق سبحانه : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] أما ما تسمعه من الجعر في مكبرات الصوت والنُّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم ، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم يزيدوا شيئاً بـ الميكروفونات . كذلك الذين يرفعون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس ، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه : هذا يريد أنْ يصلي ، وهذا يريد أن يُسبِّح أو يستغفر ، وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب الله ، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت ؟ بعد أنْ عرضتْ لنا الآيات طرفاً من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ … } .