Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 33-33)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعاً في الآخرة ، وسبق أنْ ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الأرض : يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم ، وقالت البحار : نغرقه … إلخ ، فكان الرد من الخالق عز وجل " دعوني وخلقي ، فلو خلقتموهم لرحمتموهم ، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم ، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم " . وقوله تعالى : { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ … } [ لقمان : 33 ] التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك وتحميك لذلك يقول تعالى في آية أخرى { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ … } [ آل عمران : 131 ] وهما بمعنى واحد لأن معنى اتقوا الله : اجعلوا بينكم وبين صفات جلال ربكم وانتقامه وجبروته وقاية ، وكذلك في : اتقوا النار . فالخطاب هنا عام للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم ، فالله تعالى يريد أن يُدخلهم جميعاً حيِّز الإيمان والطاعة ، ويريد أنْ يعطيهم ويمنّ عليهم ويعينهم ، وكأنه سبحانه يقول لهم : لا أريد لكم نِعَم الدنيا فحسب ، إنما أريد أنْ أعطيكم أيضاً نعيم الآخرة . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، كان رحيماً حتى بالكافرين والمعاندين له ، كما ذكرنا في قصة اليهودي الذي اتهموه ظلماً بسرقة درع أحد المسلمين ، وقد عزَّ على المسلمين أنْ يُرمى واحد منهم بالسرقة ، فجعلوها عند اليهودي ، وعرضوا الأمر على سيدنا رسول الله ، فأداره في رأسه : كيف يتصرف فيه ؟ فأسعفه الله ، وأنزل عليه : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ … } [ النساء : 105 ] لا بين المؤمنين فحسب { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] أي : لا تخاصم لصالح الخائن ، وإنْ كان مسلماً ، فالناس جميعاً سواء أمام مسئولية الإيمان . وفَرْق بين : اتقوا ربكم واتقوا الله لأن عطاء الربوبية غير عطاء الألوهية ، عطاء الربوبية إيجاد من عَدَم ، وإمداد من عُدْم ، وتربية للمؤمن وللكافر ، أما عطاء الألوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ للأوامر ، فاختار هنا الرب الذي خلق وربَّى ، وكأنه سبحانه يقول للناس جميعاً : من الواجب عليكم أن تجعلوا تقوى الله شكراً لنعمته عليكم ، وإنْ كنتم قد كفرتُم بها . ولا تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا ، إنما { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ … } [ لقمان : 33 ] أي : خافوا يوماً تُرجعون فيه إلى ربكم ، وكلمة يوم تأتي ظرفاً ، وتأتي اسماً مُتصرِّفاً ، فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقول : خِفْت شدة الملاحظة يوم الامتحان ، فالخوف من الحدث ، لا من اليوم نفسه ، أمَّا لو قلت خفت يوم الامتحان ، فالخوف من كل شيء في هذا اليوم ، أي من اليوم نفسه . فالمعنى هنا { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً … } [ لقمان : 33 ] لأن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء فيه ، وفي هذا اليوم { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ . . } [ لقمان : 33 ] خصَّ هنا الوالد والولد لأنه سبحانه نصح الجميع ، ثم خصَّ الوالدين في الوصية المعروفة { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ … } [ لقمان : 14 ] . ثم ذكر حيثيات هذه الوصية وقال : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ … } [ لقمان : 14 ] فجعل لهما فضلاً ومَيْزة ومنزلة عند الله ، حتى أصبحا مظنة النفع حتى يوم القيامة ، فأراد سبحانه أنْ يُبيِّن لنا أن نفع الوالد لولده ينقطع في الآخرة ، فكلٌّ منهما مشغول بنفسه ، فلا ينفع الإنسان حتى أقرب الناس إليه . وفي سورة البقرة : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً … } [ البقرة : 48 ] أي : مطلق النفس ، لا مجرد الوالد والولد ، إنما عامة الناس لا ينفع أحد منهم أحداً أيّاً كان . والآية بهذا اللفظ وردت في موضعين : اتفقا في الصدر ، واختلفا في العَجُز ، وهي تتحدث عن نَفْسين : الأولى هي النفس الجازية أي : التي تتحمل الجزاء ، والأخرى هي النفس المجزيَّة التي تستحق العقوبة . فالآية التي نظرت إلى النفس المجزيِّ عنها ، جاء عَجُزها { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ … } [ البقرة : 123 ] . ومعنى : عَدْل أي فدية ، فالنفس المجزيّ عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن تعرض الفدية ، فلا يقبل منها فدية ، لكنها لا تيأس ، بل تبحث عَمَّنْ يشفع لها من أصحاب الجاه والمنزلة يتوسط لها عند الله ، وهذه أيضاً لا تنفع . أما النفس الجازية ، فأول ما تعرض تعرض الشفاعة ، فإنْ لم تُقبل عرضت العدل والفدية لذلك جاء عَجُز الآية الأخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل . إذن : ذَيْل الآية الأولى عائد على النفس المجزيِّ عنها ، وذيل الآية الثانية يعود على النفس الجازية . وهنا { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ … } [ لقمان : 33 ] لأن الوالد مظنّة الحنان على الولد ، وحين يرى الوالد ولده يُعذَّب يريد أنْ يفديه ، فقدَّم هنا الوالد ثم قال : { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً … } [ لقمان : 33 ] فقدم المولود ، وكان مقتضى الكلام أنْ نقول : ولا يجزي ولد عن والده ، فلماذا عدل عن ولد إلى مولود ؟ الكلام هنا كلام رب ، وفرْق كبير بين ولد ومولود لأن المسلمين الأوائل كان لهم آباء ماتوا على الكفر ، فظنوا أن وصية الله بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة ، فأنزل الله هذه الآية تبين لهؤلاء ألاَّ يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئاً عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر . لذلك لم يقل هنا ولد ، إنما مولود ، لأن المولود هو المباشر للوالد ، والولد يقال للجد وإنْ علا فهو ولده ، والجد وإنْ علا والده ، فإذا كانت الشفاعة لا تُقبل من المولود لوالده المباشر له ، فهي من باب أَوْلَى لا تُقبل للجدِّ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود ، فالمسألة كلام رب حكيم ، لا مجرد رَصْف كلام . لكن ، متى يجزي الوالد عن الولد ، والمولود عن والده ؟ قالوا : الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج منه العطف والرعاية ، فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه الألم ، أما الولد فلا يدفع عن أبيه الألم لأنه كبير ، إنما يدفع عنه الإهانة ، فالوالد يشفع في الإيلام ، والولد يشفع في الإهانة ، فكل منهما مقام . ثم يقول سبحانه : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ … } [ لقمان : 33 ] عرفنا أن الوعد : إخبار بشيء يسر لم يَأْت وقته ، وضده الوعيد ، وهو إخبار بشيء يؤذي لم يأْتِ وقته بعد ، لكن ما فائدة كل منهما ؟ فائدة الوعد أنْ تستعدَّ له ، وتأخذ في أسبابه ، فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يُحقِّق لك هذا الوعد كأنْ تَعِد ولدك مثلاً بجائزة إنْ نجح في الامتحان ، وعلى العكس من ذلك الوعيد لأنه يُخوِّفك من عاقبته فتحترس ، وتأخذ بأسباب النجاة منه . إذن : الوعد حق ، وكذلك الوعيد حق ، لكنه خصَّ الوعد لأنه يجلب للنفس ما تحب ، أمّا الوعيد فقد يمنعها من شهوة تحبها ، ووضحنا هذه المسألة بأن الحق - سبحانه وتعالى - يتكلم في النعم أن منها نِعَم إيجاب ، ونِعَم سلب . واقرأ في ذلك قول ربك : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 35 - 36 ] . فإذا كانت الجنة وما فيها نعماً تستحق الشكر ، ويمتنّ الله بها علينا ، فأيُّ نعمة في الشواظ والنار والعذاب ؟ قالوا : هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه ، وتنجو منه قبل أنْ تقع فيه ، نعمة لأن الله لم يأخذنا على غِرَّة ، ونبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه . ووَعْد الله حقٌّ لأنه وعد ممَّنْ يملك الوفاء بما وعد ، وإنفاذ ما وعد به ، أما غير الله سبحانه فلا يملك أسباب الوفاء ، فوعده لا يُوصَف بأنه حق لذلك قال سبحانه في سورة الكهف : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 23 - 24 ] . فأنت وإنْ كنتَ صادقاً فيما وعدتَ به إلا أنك لا تضمن البقاء إلى أنْ تفي بما وعدتَ ، فإنْ بقيت فقد تتغير الأسباب فتحول بينك وبين الوفاء ، وأنت لا تملك سبباً واحداً من هذه الأسباب . إذن : تأدب ودَع الأمر لمَنْ يملك كل أسباب إنفاذ الوعد ، وقُلْ سأفعل كذا إن شاء الله ، حتى إذا لم تنفذ يكون لك حجة فتقول : أردتُ لكن الله لم يشأ . وكأن ربنا - عز وجل - يريد أنْ يداري كذبنا ويستره علينا ، يريد ألاَّ يفضحنا به ، وأخرجنا من هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه ، وكأن قدر الله في الأشياء صيانة لعبيده من عبيده . لذلك كثيراً ما نقول حينما لا نستطيع الوفاء : هذا قدر الله ، وماذا أفعل أنا ، والأمر لا يُقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء . وما دمنا قد آمنا بقدر الله والحكمة منه ، فلا تغضب مني إنْ لم أفِ لك وأنت كذلك ، والعاقل يعلم تماماً حين يقضي أمراً لأحد أن قضاء الأمر جاء معه لا به ، فالقدر قضاء ، ووافق قضاؤه قضاء الله للأمر ، فكأن الله كرَّمه بأنْ يقضي الأمر على يديه ، لذلك قلنا : إن الطبيب المؤمن يقول : جاء الشفاء معي لا بي ، وأن الطبيب يعالج والله يشفي ، إذن : لا يُوصَف الوعد بأنه حقٌّ إلا وعد الله عز وجل . وما دام وعد الله حقاً فعليك أنْ تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعَّدك عليه بشرٍّ ، وألاَّ تغرك الحياة { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا … } [ لقمان : 33 ] أي : بزينتها وزُخْرفها ، فهي سراب خادع ليس وراءه شيء ، واقرأ قول الله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . والحق سبحانه يضرب لنا مثلاً للدنيا ، لا ليُنفِّرنا منها ، وإنما لنحتاط في الإقبال عليها ، وإلا فحبُّ الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للآخرة ومضمار للتسابق إليها . يقول تعالى في هذا المثل : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الكهف : 45 ] فسماها دنيا ، وليس هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ … } [ الكهف : 45 ] نعم ، كذلك الدنيا تزدهي ، لكن سرعان ما تزول ، تبدأ ابتداءً مقنعاً مغْرياً ، وتنتهي انتهاءً مؤسفاً . وقوله تعالى : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [ لقمان : 33 ] والغَرور بالفتح الذي يغرُّك في شيء ما ، والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقول : @ أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التدَلُّل وإنْ كنت قَدْ أَزْمعتِ صَرْمي فأَجْمِلِي أغرَّك مني أنَ حبَّكِ قَاتِلي وأَنَّكِ مَهْما تأْمُري القَلْبَ يفعَلِ @@ فمعنى غرَّك : أدخل فيك الغرور ، بحيث تُقبل على الأشياء ، وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى ضوئه . والغَرُور بالفتح هو الشيطان ، وله في غروره طرق وألوان ، فغرور للطائعين وغرور للعاصين ، فلكل منهما مدخل خاص ، فيغرّ العاصي بالمعصية ، ويوسوس له بأن الله غفور رحيم ، وقد عصا أبوه فغفر الله له . لذلك أحد الصالحين سمع قول الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ * ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [ الانفطار : 6 - 7 ] فأجاب هو : غرَّني كرمه ، لأنه خلقني وسوَّاني في أحسن صورة ، وعاملني بكرم ودلَّّلني ، حتى أصابني الغرور بذلك ، ولو أنه عز وجل قسا علينا ما اغتررنا . وكان لأحدهم دَيْن خمسة صاغ فضة عند آخر ، فردَّها إليه ، فلما نظر فيها الدائن وجدها ممسوحة فأعادها إليه ، فقال المدين : والله لو كنت كريماً لقبلتها دون أنْ تنظر فيها . فأخذ الواعظ هذه الواقعة وأراد أنْ يعظ بها الدائن ، وكان يصلي صلاةً لا خشوعَ فيها ، فقال له : إن صلاتك هذه لا تعجبني ، فهي نَقْر لا خشوع فيها ، أرأيت لو أن لك دَيْنا فأعطاك صاحب الدين نقوداً ممسوحة قديمة أكنت تقبلها ؟ فقال الرجل : والله لو كنتُ كريماً أقبلها ولا أردها . ثم يقول الحق سبحانه مختتماً سورة لقمان : { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ … } .