Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 16-16)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
التجافي يعني الترك ، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم ، كما تودع حبيباً وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قَالٍ له ، أما الجفوة فترك فيه كراهية للمتروك ، فهؤلاء المؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته . ونذكر هنا إن الإمام علياً رضي الله عنه حينما ذهب ليدفن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وقف عند قبر رسول الله وقال : السلام عليك يا سيدي يا رسول الله ، قَلَّ عن صفيتك صبري ، ورقَّ عنها تجلُّدي ، إلا أن لي في التعزي بعظيم فُرْقتك وفادح مصيبتك موضع تأسٍّ - يعني : الذي تحمَّل فَقْدك يا رسول الله يهون عليه أيُّ فَقْد بعدك - فلقد وسدتُك يا رسول الله في ملحودة قبرك ، وفاضت بين سَحْري ونَحْري نفسك ، أما ليلي فمُسهَّد ، وأما حزني فَسَرْمَد ، إلى أنْ يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، هذا وستخبرك ابنتك عن حال أمتك وتضافرها على هضمها … فَأصْغِها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يَطلُّ منك العهد ، ولم يخْلُ منك الذكر . ثم لما أراد أنْ ينصرف عن قبر حبيبه قال : والسلام عليك سلام مُودِّع ، لا قال ولا سئم ، فإنْ انصرف فلا عن ملالة ، وإنْ أُقِم فلا عن سوء ظنَّ بما وعد الله به عباده الصابرين . فقوله تعالى : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ … } [ السجدة : 16 ] أي : تكرهها وتجفوها ، مع أنها أعزُّ ما يركن إليه الإنسان عند راحته ، فالإنسان حين تدبّ فيه الحياة ، ويستطيع أنْ تكون له قوة ونشاط يعمل في الحياة ، فالعمل فرع وجود الحياة ، وبالقوة يمشي ، وبالقوة يحمل الأثقال . فإذا ما أتعبه الحِمْل وضعه عن نفسه ليستريح ، لكنه يستطيع أن يمشي بدون حمل ، فإنْ أتعبه المشي وقف ، فإذا أتعبه الوقوف جلس لذلك يحدث أن تقول لصاحبك : لو سمحت احمل عني هذا الحِمْلَ فيقول : يا شيخ ، هل أنا قادر أن أحمل نفسي ؟ إذن : التعب في هذه الحالة ناشئ من ثِقَل الجسم على القدمين فيتعبه الوقوف ، ألاَ ترانا إذا أطال الإمام في الصلاة مثلاً نراوح بين القدمين مرة على هذه ، ومرة على هذه ، أما القعود فيريح الإنسان لأنه يُوسِّع دائرة العضو المحتمل ، فثِقَل الجسم في حالة القعود يُوزَّع على المقعدة كلها ، فإذا بلغ به التعب حداً بحيث أتعبه القعود فإنه يستلقي على جنبه ، ويمد جسمه كله على الأرض فيتوزع الثقل على كل الأعضاء ، فلا يحمل العضو إلا ثقله فقط . فإنْ شعر الإنسان بتعب بعد هذا كله تقلَّب على جنبه الآخر أو على ظهره ، هذه كلها ألوان من الراحة لجسم الإنسان ، لكنه لا يرتاح الراحة الكاملة إلا إذا استغرق في النوم ، ويُسمُّون هذا التسلسل متواليات عضلية . والدليل على أن النوم راحة تامة أنك لا تشعر فيه بالألم الذي تشعر به حال اليقظة - إنْ كنت تتألم من مرض مثلاً - وهذه كلها متواليات يمر بها المؤمن ، وبالتالي إذا مات استراح أكثر ، ثم إذا بُعِث يوم القيامة ارتاح الراحة الكبرى ، فهي مراحل نمرُّ بها إلى أنْ نرتمي في حضن خالقنا عز وجل . إذن : فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة ، ولم تأْتِ إلا بعد عدة مراحل من التعب ، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسيهم هذه الراحة ، ويُزهِّدهم فيها ، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله . وفي موضع آخر قال تعالى عنهم : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] ثم يقول سبحانه : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ … } [ السجدة : 16 ] أي : يدعون ربهم وهم على حال التعب ، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم ، لماذا ولم يُجَابوا بعد ؟ قالوا : لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تُنسيهم التعب الذي يعانون . والمؤمنون يدعون ربهم { خَوْفاً وَطَمَعاً … } [ السجدة : 16 ] أي : خوفاً مما حدث منهم من تقصير في حق الله ، وأنهم لم يُقدِّموا لله تعالى ما يستحق من التقوى ومن الطاعة { وَطَمَعاً … } [ السجدة : 16 ] أي : في المغفرة { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] والمراد هنا الزكاة . لذلك نرى في قوله تعالى : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ … } [ السجدة : 16 ] أن هذا التجافي كان بقصد الصلاة لأن القرآن عادةً ما يقرن بالصلاة بالزكاة ، فقال بعدها : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] .