Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 17-17)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا : إن الحق سبحانه أخفى أسرار الخير عن الخَلْق ، ولم يُعْطهم منها إلا على قدر حاجتهم منها ، فإذا أراد سبحانه أنْ يُجازي عباده المؤمنين لا يجازيهم بما يعلمون من خيرات الدنيا وإمكاناتهم فيها ، إنما يجازيهم بما يعلم هو سبحانه ، وبما يتناسب مع إمكانات قدرته . وهذه الإمكانات لا نستطيع نحن التعبير عنها لأن ألفاظ اللغة لا تستطيع التعبير عنها ، ومعلوم أن الإنسان لا يضع الاسم إلا إذا وُجد المسمى والمعنى أولاً لذلك قال تعالى في التعبير عن هذا النعيم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ … } [ السجدة : 17 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة : " فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سمعت ، ولا خظر على قلب بشر " إذن : كيف نُسمِّي هذه الأشياء ؟ وكيف نتصَّورها وهي فوق إدراكاتنا ؟ لذلك سنفاجأ بها حين نراها إنْ شاء الله . ثم أَلاَ ترى أن الحق سبحانه حينما يعرض علينا طرفاً من ذكر الجنة لا يقول لنا الجنة كذا وكذا ، إنما يقول : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ … } [ الرعد : 35 ] أي : أن ما نعرضه عليك ليس هو الجنة ، إنما شبيه بها ، أما هي على الحقيقة ففوق الوصف الذي تؤديه اللغة ، فأنا أعطيكم الصورة القريبة لأذهانكم . ثم يُنقي الحق سبحانه المثل الذي يضربه لنا من شوائبه في الدنيا ، وتأمل في ذلك قول الله تعالى عن نعيم الجنة : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ … } [ محمد : 15 ] وكانت آفة الماء عندهم أن يأسن ويتغير في الجرار ، فنقَّاه الله من هذه الآفة . وكذلك في { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ … } [ محمد : 15 ] وكان العربي إذا سار باللبن يحمض فيعافه { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ … } [ محمد : 15 ] وآفة خمر الدنيا أنها تغتال العقل ، وتذهب به ، وليس في شربها لذة لذلك نرى شاربها والعياذ بالله يتجرَّعها مرة واحدة ، ويسكبها في فمه سَكْباً ، دليلاً على أنها غير طيبة ، وهل رأيت شارب الخمر يمتصُّها مثلاً كما تمتص كوباً من العصير ، وتشعر بلذة شربه ؟ وقد وصف الله خمر الآخرة بقوله : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] . ثم يقول سبحانه : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى … } [ محمد : 15 ] فوصف العسل بأنه مُصفَّى لأن آفة العسل عندهم ما كان يعلَق به من الحصى والشوائب حين ينحدر من بيوت النحل في الجبال ، فصفَّى الله عسل الآخرة من شوائب العسل في الدنيا . ومهما بلغ بنا ترف الحياة ونعيمها ، ومهما عَظُمَتْ إمكاناتنا في الدنيا ، فلن نرى فيها نهراً من الخمر ، أو من اللبن ، أو من العسل ، ثم إن هذه الأنهار تجري في الجنة بلا شطآن ، بل ويتداخل بعضها في بعض دون أن يطغى أحد منها على الآخر ، وهذه طلاقة القدرة التي لا حدود لها . إذن : الحق سبحانه حين يشرح لنا نعيم الجنة ، وحين يَصِفُها يعطينا المثال لا الحقيقة ، ثم يُنقِّى هذا المثال مما يشوبه في الدنيا . ومن ذلك أن العربي كان يحب شجرة السِّدر أي النبق ، فيستظل بظلها ، ويأكل ثمرها ، لكن كان ينغص عليه هذه اللذة ما بها من أشواك لا بُدَّ أنْ تؤذى مَنْ يقطف ثمارها ، فلما ذكرها الله تعالى في نعيم الجنة قال عنها : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } [ الواقعة : 28 ] أي : منزوع الشوك ، فالمتعة به تامة لا يُنغِّصها شيء . ولما تكلم عن نساء الجنة قال سبحانه عن الحور العين : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 74 ] فنفى عنهن ما يُنغِّص على الرجل جمال المرأة في الدنيا ، وطمأنك أنها بِكْر لم ينظر إليها أحد قبلك . لهذا قال تعالى عن نعيم الجنة { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ … } [ السجدة : 17 ] والقرة والقُرور أي : السكون ، ومنه قرَّ في المكان أي : استقر فيه ، والمعنى أن الإنسان لا يستقر في المكان إلا إذا وجد فيه راحته ومُقوِّمات حياته ، فإذا أردتَ أنْ تستقر في مكان أو تشتري شقة مثلاً تسأل عن المرافق والخدمات من ماء وكهرباء وطرق … إلخ . حتى نحن في تعبيراتنا العامية وفي الريف الذي يحتفظ لنا بخصائص الفطرة النقية التي لم يَشُبْها زيف الحضارات ولا زخرفة المدينة ، وهذه الفطريات تستهوي النفوس وتجذبها ، بدليل أن الإنسان الحضاري مهما بلغ القمة وسكن ناطحات السحاب ، وتوفرتْ له كل كماليات الحياة لا بُدَّ أنْ يأتي اليوم الذي يلجأ فيه إلى أحضان الطبيعة ، فلا ترتاح نفسه ، ولا تستقر إلا في الريف ، فيقضي هناك عدة أيام حيث تهدأ هناك نفسه ، وتستريح من ضوضاء المدينة ، والبعض يسمونها الويك إند . فمعنى قرة العين أي : استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره ، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها ، ورأتْ فيه كل ما تصبو إليه من متعة . ومن ذلك قولنا فلان عينه مليانة يعني : لا يحتاج مزيداً من المرائي غير ما يراه وفلان عينه فارغة يعني : لا يكتفي بما يرى ، بل يطلب المزيد ، فينظر هنا وهناك . ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات ، فقد كَمُلَتْ لها المعاني ، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام . لذلك يخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ … } [ طه : 131 ] . فالإنسان إذا كانت عينه فارغة تراه زائغ العينين ، ينظر هنا وهناك ، ولو كانت عينه مليانة لانتهى عندها . ومن معاني مادة قرَّ القُرُّ وهو البرد الشديد ، وهذا المعنى يَكْنُون به عن سرور النفس ، فالعين الباردة أي : المسرورة ، أما العين الساخنة فهي الحزينة المتألمة . ومن المعاني أيضاً لقرور العين سكونها وعدم حركتها لِعلَّة أو عمى ، ومن ذلك قول المرأة التي دخلتْ على الخليفة فقالت : أقرَّ الله عينك ، وأتمَّ عليك نعمتك . ففهم الحاضرون أنها تدعو له ، فقال : والله ما دعتْ لي ، إنما دعتْ عليَّ ، فهي تقصد أقرَّ الله عينك يعني : أسكنها لا تتحرك ، وأتمَّ عليك نعمتك . أي : أزالها لأن النعمة إذا تمتْ زالت ، فلا شيء بعد التمام إلا النقصان . ثم يُعلِّل الحق سبحانه هذا النعيم الذي أخفاه لعباده المؤمنين في الجنة بأنه { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وهذه أثارت معركة بين العلماء هي معركة الأحباء : فريق قال إن المؤمن يدخل الجنة بعمله ، كما نصَّتْ هذه الآية أي : أن الجنة بالعدل لا بالفضل ، وفريق قال : بل يدخل الجنة بفضل الله ، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " . فلما حميَتْ هذه المعركة أرادوا أنْ يوحدوا هذين الرأيين ، ويُوفِّقوا بينهما ، فقالوا : لقد سبق الله تعالى المكلف بالإحسان ، فخلق له مُقومات حياته قبل أنْ يوجد ، ثم تركه يرتع في نِعَمه دون أنْ يطالبه بشيء حتى بلغ سِنَّ التكليف . فإذا ما كلَّفه الله بعد سابق نعمه عليه ، فعليه أنْ يطيع هذا التكليف جزاء ما سبق من إحسان الله إليه الإحسان الأول ، وبذلك يكون الجزاء في الآخرة ليس على العمل ، إنما محْض فضل من الله على عباده . إذن : حينما تؤدي ما كلَّفك ربك به كأنك تجازي ربك بطاعته على سابق إحسانه إليه ، فكأن الجنة ونعيمها زيادة وفضل من الله ، فالله سبحانه له الفضل عليك في الأولى ، وله الفضل عليك في الآخرة . ثم إن الحق - تبارك وتعالى - حين يُشرِّع لك ويكلِّفك ، فشَرْعه وتكليفه في ذاته فضل ، أَلاَ ترى أن الحسنة عنده سبحانه بعشر أمثالها ، وأنها تضاعف إلى أضعاف كثيرة ، ونحن مِلْكه سبحانه ، يعطينا أو لا يعطينا . وبعض أهل المعرفة والشطح يقولون : الله قدَّم الإحسان أولاً ، فيجب على العبد أن يأتي بالإحسان جزاء الإحسان لأنه { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] . وحين يُحسِن العبد في التكليف يُحيِّيه ربه بإحسان آخر ، فيرد العبد على إحسان ربه إليه بالإحسان ، وهكذا يتواصل الإحسان بين العبد وربه إلى ما لا نهاية . ثم يقول الحق سبحانه : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً … } .