Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 30-30)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذا المعنى كما نقول في العامية اديني عرض كتافك أي : انصرف عنهم ، فلم يَعُدْ بينك وبينهم لقاءٌ ، ولا جدوى من مناقشتهم والتناظر معهم فقد استنفدوا كل وسائل الإقناع ، ولم يَبْقَ لهم إلا السيف يردعهم ، على حَدِّ قول الشاعر : @ أنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عَقِّبْ بعدَها وَعيداً فَإنْ لَمْ يُغْنِ أَغَنَتْ عَزَائمهُ @@ فقد بلَّغهم رسول الله وأنذرهم ، لقد بشَّرهم بالجنة لمن آمن ، وحذرهم النار لمن كفر فلم يسمعوا . إذن : @ فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أو حَدّ مُرْهَف @@ فالعاقل الوحي يقنعه ، والجاهل السيف يردعه . وقوله سبحانه : { وَٱنتَظِرْ … } [ السجدة : 30 ] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أي : انتظر وعدي لك بالنصر والغلبة ، وقلنا : إن وعد الله محقق ، حيث لا توجد قوة أخرى تمنعه من إنفاذ وعده ، أما الإنسان فعليه حين يَعِد أنْ يتنبه إلى بشريته ، وأنه لا يملك شيئاً من أسباب تنفيذ ما وعد به . لذلك يُعلِّمنا ربنا : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } [ الكهف : 24 ] وتعليق أمرك على مشيئة الله عز وجل يحميك أن تكون كاذباً إذا لم تَفِ بما وعدتَ به ، فأسباب الوفاء بالوعد لا يملكها البشر ، إنما يملكها خالق البشر سبحانه ، فإذا وعد فاعلم أن وعده متحقق لا محالة . وقلنا : إنك حين تقول لصاحبك مثلاً : سأقابلك غداً أو سأفعل لك كذا وكذا ، نعم أنت صادق وتنوي الوفاء ، لكنك لا تملك في الغد سبباً واحداً من أسباب الوفاء ، فلربما طرأ لك طارئ ، أو منعك مانع ، وربما تغيَّر رأيك … إلخ . وفَرْق بين انتظار رسول الله حين ينفذ أمر ربه { وَٱنتَظِرْ … } [ السجدة : 30 ] وبين { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } [ السجدة : 30 ] فانتظار رسول الله لشيء محقق ، له رصيد من القوة والقدرة ، أما انتظارهم فتسويل نفس ووسوسة شيطان ، لا رصيدَ لها من قوة إنفاذ . ومعنى { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } [ السجدة : 31 ] أي : ينتظرون أن يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يمنعه من تبليغ رسالة ربه ، وهذا حمق منهم ، فقد كان عليهم أن يعلموا أن الرسول مُؤيَّد من الله مُرْسَل من قِبَله لهدايتهم ، وما كان الله تعالى ليرسل رسولاً ثم يُسْلمه أو يخذله ، فسنة الله في الرسل أن لهم الغلبة مهما قويتْ شوكة المعاندين لهم . إذن : لا سبيلَ إلى ذلك ، ولا سبيلَ أيضاً إلى الخلاص منه أو حتى تخويفه ليرتدع ، ويدع ما يدعو إليه من منهج ربه . وقد ورد هذا الانتظار في موضع آخر بلفظ التربص في قوله تعالى : { تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [ الطور : 31 ] . وفي قوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ … } [ التوبة : 52 ] أي : ماذا تنتظرون منا ونحن أمام حُسْنيين : إما النصر والغلبة عليكم ، وساعتها ندحركم ونُذلكم . أو الشهادة التي تضمن لنا حياة النعيم الباقية الخالدة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ … } [ التوبة : 52 ] . يعني : تربَّصوا بنا ، فنحن أيضاً نتربص بكم ، لكن فَرْق بين تربُّصنا وتربُّصكم . وهذه السورة سميت السجدة أولاً : لأن بها سجدة تلاوة ينبغي أن نسجد الله شكراً عندها ، والسجود يمثل منتهى الخضوع للحق - تبارك وتعالى - فإذا جاءت هذه الآية التي تهز كيان الإنسان يعلمنا ربنا أن ننفعل لهزَّة الكيان ، وأن نسارع بالسجود ، ولا ننتظر سجودنا بعد ذلك في الصلاة . فكأن في هذه الآية آمراً قوياً وسراً عظيماً استدعى أنْ نُخرِج السجود عن موقعه بأمر مَنْ شرع السجود الأول . إذن : لا بُدَّ أن في آيات سجود التلاوة طاقاتٍ جميلة من نِعَم الله تُذكِّرني به . والحق سبحانه يريد أنْ يشعر الخَلْق أنهم يستقبلون نعماً جديدة ، لا يكفي في شكرها السجود الرتيب الذي نعرفه ، فيشرع لها سجوداً خاصاً بها . وفي السورة أيضاً بعض الإشارات التي وقف عليها العارفون وقالوا : إنها تضع نماذج لصيانة النفس الإنسانية ، وعدم بُعْدها عن حكمة خالقها ، ومن هذه الإشارات أن العين ترى الأشياء فتقول : هذا حسن ، وهذا قبيح ، ذلك من مجرد الشكل الخارجي ، لكن على المرء أنْ يتأمل الأشياء ويعرف معنى القبح . القبح ليس ما قَبُحَ في نظرك ، إنما القبيح الذي يُخرِج الحُسْن التكليفي عن مناطه لأن الخالق - عز وجل - خلق كل شيء جميلاً ، كما قال سبحانه : { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ … } [ السجدة : 7 ] . فإذا قَبُحَ الشيء في نظرك فاعلم أنك نظرتَ إلى جانب الشكل ، وأهملتَ جوانب أخرى ، وقُلْ إنني لم أتوصل إلى سرِّ الجمال فيه . وسبق أنْ قُلْنا : إن الخالق سبحانه نثر المواهب بين خَلْقه بحيث تجد مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان ، فلا تنظر إلى جانب واحد فتقول : هذا غني ، وهذا فقير ، لكن انظر إلى الجوانب الأخرى . ويُرْوَى أن سيدنا نوحاً عليه السلام رأى كلباً أجرب فبصق عليه ، فأنطق الله الكلب الأجرب ، وقال له : أتعيبني أم تعيب خالقي ؟ والمعنى أنه خلقني لحكمة ، ولمعنى من المعاني . وصدق القائل : @ للِقُبْح وَقْتٌ فِيهِ يَظْهر حُسْنُه وَيُحمد مَنْ غشَّ البناءَ لَدَى الهَدْمِ @@ كذلك نثر الحق سبحانه حكمه ، ونثر خيره في كتابه ، فلا تغني آية عن آية ، ولا تغني كلمة عن كلمة ، ولا حرف عن حرف ، لكن البصائر التي تَتلَقَّى عن الله هي التي تستطيع أنْ تقف على أسرار الله .