Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { وَأَوْرَثَكُمْ … } [ الأحزاب : 27 ] أي : أعطاكم أرضَ وديار وأموالَ أعدائكم من بعد زوالهم وانهزامهم { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا … } [ الأحزاب : 27 ] أي : أماكن جديدة لم تذهبوا إليها بعد ، والمراد بها خيبر ، وكأن الله يقول لهم : انتظروا فسوف تأخذون منهم الكثير { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } [ الأحزاب : 27 ] . وهكذا انتهى التعبير القرآني من قصة الأحزاب . وينبغي علينا الآن أنْ نستعرض القصة بفلسفة أحداثها ، وأن نتحدث عَمَّا في هذه القصة من بطولات ، ففيها بطولات متعددة ، لكل بطل فيها دور . وتبدأ القصة حين ذهب كل من حيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكانا من قريظة ، ذهبا إلى قريش في أماكنها ، وقالوا : جئناكم لنتعاون معكم على إبطال دعوة محمد ، فأتُوا أنتم من أسفل ، وننزل نحن من أعلى ، ونحيط محمداً ومن معه ونقضي عليهم . وكان في قريش بعض التعقُّل فقالوا لحيي بن أخطب وصاحبه : أنتم أهل كتاب ، وأعلم بأمر الأديان فقولوا لنا : أديننا الذي نحن عليه خير أم دين محمد ؟ فقال : بل أنتم أصحاب الحق . سمعتْ قريش هذا الكلام بما لديها من أهواء ، وكما يقال : آفة الرأي الهوى لذلك لم يناقشوه في هذه القضية ، بل نسجوا على منواله ، ولم يذكروا ما كان من أهل الكتاب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ، وأنهم كانوا يستفتحون على الكافرين برسول الله ويقولون لهم : لقد أطلَّ زمان نبي جديد نتبعه ونقتلكم به قَتْلَ عاد وإرم ، لقد فات قريشاً أنْ تراجع حيي بن أخطب ، وأن تسأله لماذا غيَّرتم رأيكم في محمد ؟ ثم جاء القرآن بعد ذلك ، وفضح هؤلاء وهؤلاء ، فقال سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] . فكانت هذه أول مسألة تغيب فيها العقول ، ويفسد فيها الرأي ، فتنتهز قريش أول فرصة حين تجد مَنْ يناصرها ضد محمد ودعوته ، ومن هنا اجتمع أهل الباطل من قريش وأحلافها من بني فزارة ، ومن بني مرة ، ومن غطفان وبني أسد والأشجعيين وغيرهم ، اجتمعوا جميعاً للقضاء على الدين الوليد . ثم كانت أولى بطولات هذه المعركة ، لرجل ليس من العرب ، بل من فارس عبدة النار والعياذ بالله ، وكأن الحق سبحانه يُعِد لنصرة الحق حتى من جهة الباطل ، إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي ، الذي قضى حياته جَوَّالاً يبحث عن الحقيقة ، إلى أنْ ساقتْه الأقدار إلى المدينة ، وصادف بعثة رسول الله وآمن به . وكان سلمان أول بطل في هذه المعركة ، حين أشار على رسول الله بحفر الخندق ، وقال : يا رسول الله كنا - يعني في فارس - إذا حَزَبنا أمرُ القتال خندقنا يعني : جعلنا بيننا وبين أعدائنا خندقاً ، ولاقت هذه الفكرة استحساناً من المهاجرين ومن الأنصار ، فأراد كل منهم أن يأخذ سلمان في صَفِّه ، فلما تنازعا عليه ، قال سيدنا رسول الله لهم " بل سلمان منا آل البيت " وهذا أعظم وسام يوضع على صدر سلمان رضي الله عنه . وهذه الفكرة دليل على أن الحق سبحانه يُجنِّد حتى الباطل لخدمة الحق ، فنحن لم يسبق لنا أنْ رأينا خندقاً ولا أهل الفارسي الذين جاءوا بهذه الفكرة ، لكن ساقها الله لنا ، وجعلها جُنْداً من جنوده على يد هذا الصحابي الجليل ، لنعلم كما قال تعالى { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] . وقد أوضحنا هذا المعنى في قصة فرعون الذي كان يذبح الأطفال بعد النبوءة التي سمعها ، ثم يأتيه طفل على غير العادة يحمله إليه الماء ، وهو في صندوقه ، ولا يخفى على أحد أنَّ أهله قصدوا بذلك إبعاده عن خطر فرعون ، ومع ذلك حال الله بين فرعون وبين ما في قلبه ، فأخذ الولدَ وربَّاه في بيته . وقد أحسن الشاعر الذي عبَّر عن هذا المعنى ، فقال : @ إذاَ لَمْ تُصَادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً فَقَد كَذَب الراجي وَخَاب المُؤمِّلُ فَمُوسىَ الذِي ربَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ ومُوسىَ الذي ربَّاهُ فرعَوْنُ مُرْسَلُ @@ البطل الثاني في هذه المعركة رجل يُدْعَى نعيم بن مسعود الأشجعي ، جاء لرسول الله يقول : يا رسول الله لقد مال قلبي للإسلام ، ولا أحد يعلم ذلك من قومي ، فقال له رسول الله : " وما تغني أنت ؟ ولكن خذِّل عنا " أي : ادفع عنا القوم بأيِّ طريقة ، أبعدهم عنّا ، أو ضلِّلهم عن طريقنا ، أو قُلْ لهم أننا كثير ليرهبونا … إلخ . هذا رجل كان بالأمس كافراً ، فماذا فعل الإيمان في قلبه ، وهو حديث عهد به ؟ نظر نُعَيْم ، فرأى قريشاً وأتباعها يأتون من أسفل ، وبني قريظة وأتباعهم يأتون من أعلى ، فأراد أنْ يدخل بالدسيسة بينهما ، فذهب لأبي سفيان ، وقال : يا أبا سفيان ، أنا صديقكم ، وأنتم تعلمون مفارقتي لدين محمد ، ولكني سمعت هَمْساً أن بني قريظة تداركوا أمرهم مع محمد ، وقالوا : إن قريشاً وأحلافهم ليسوا مقيمين في المدينة مثلنا ، فإنْ صادفوا نصراً ينتصرون ، وإنْ صادفوا هزيمة فروا إلى بلادهم ، ثم يتركون بني قريظة لمحمد لذلك قرروا ألاَّ يقاتلوا معكم إلاَّ أنْ تعطوهم عشرة من كبرائكم ليكونوا رهائن عندهم . سمع أبو سفيان هذا الكلام ، فذهب إلى قومه فقال لهم : أنتم المقيمون هنا ، وليس هذا موطن بني قريظة ، وسوف يتركونكم لمواجهة محمد وحدكم ، فإنْ أردتم البقاء على عهدهم في محاربة محمد ، فاطلبوا منهم رهائن تضمنوا بها مناصرتهم لكم . بعدها ذهب أبو سفيان ليكلِّم بني قريظة في هذه المسألة ، فقال : هلك الخفُّ والحافر - يعني : الإبل والخيل - ولسنا بدار مقام لنا ، فهيا بنا نناجز محمداً - هذا بعد أنْ مكثوا نيِّفاً وعشرين يوماً يعدون ويتشاورون - فقالوا له : هذا يوم السبت ، ولن نفسد ديننا من أجل قتال محمد وعلى كل حال نحن لن نشترك معكم في قتال ، إلا أنْ تعطونا عشرة من كبرائكم يكونون رهائن عندنا ، ساعتها علم أبو سفيان أن كلام نعيم الأشجعي صِدْق ، فجمع قومه وقال لهم : الأرض ليست أرض مقام لنا ، وقد هلك الخف والحافر ، فهيا بنا ننجو . قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء نعيم بن مسعود ، وأخبر رسول الله بما حدث ، ووجد رسول الله الجو هادئاً ، فقال : " ألا رجل منكم يذهب فيُحدِّثنا الآن عنهم ، وهو رفيقي في الجنة ؟ " والمراد : أن يندسَّ بين صفوف الأعداء ليعلم أخبارهم . ومع هذه البشارة التي بشر بها سيدنا رسول الله مَنْ يؤدي هذه المهمة ، لم يَقُمْ من الحاضرين أحد ، ودَلَّ هذا على أن الهول ساعتها كان شديداً ، والخطر كان عظيماً ، وكان القوم في حال من الجهد والجوع والخوف ، جعلهم يتخاذلون عن القيام ، فلم يأنس أحد منهم قوة في نفسه يؤدي بها هذه المهمة . لذلك كلَّف رسول الله رجلاً يُدْعى حذيفة بن اليمان بهذه المهمة قال حذيفة : ولكن رسول الله قال لي : لا تُحدِث أمراً حتى ترجع إليَّ ، فلما ذهبتُ وتسللتُ ليلاً جلستُ بين القوم ، فجاء أبو سفيان بالنبأ من بني قريظة ، يريد أنْ يرحل بمَنْ معه ، فقال : ليتعرَّف كل واحد منكم على جليسة ، مخافة أن يكون بين القوم غريب . وهنا تظهر لباقة حذيفة وحُسْن تصرفه - قال : فأسرعتُ وقلت لمَنْ على يميني : مَنْ أنت ؟ قال : معاوية بن أبي سفيان ، وقلت لمَنْ على يساري : مَنْ أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ، وسمعت أبا سفيان يقول للقوم : هلك الخفُّ والحافر ، وليستْ الأرض دارَ مقام فهيا بنا ، وأنا أولكم ، وركب راحلته وهي معقولة من شدة تسرُّعه ، قال حذيفة : فهممتُ أن أقتله ، فأخرجت قوسي ووترتُها وجعلت السهم في كبدها ، لكني تذكرت قول رسول الله " لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني " فلم أشأْ أن أقتله ، فلما ذهبت إلى رسول الله وجدته يصلي ، فلما أحسَّ بي فَرج بين رجليه - وكان الجو شديد البرودة - فدخلتُ بين رجليه فنثر عليَّ مُرْطه ليدفئني ، فلما سلم قال لي : ما خطبك فقصصت عليه قصتي . وبعد أنْ جند الحق سبحانه كلاً من نعيم الأشجعي وحذيفة لنصرة الحق ، جاءت جنود أخرى لم يروْهَا ، وكانت هذه الليلة باردة ، شديدة الرياح ، وهبَّتْ عاصفة اقتلعتْ خيامهم ، وكفأتْ قدورهم وشرَّدتهم ، ففرَّ مَنْ بقي منهم . وهذا معنى قوله تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : 25 ] { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ … } [ المدثر : 31 ] . بعد أنْ ردَّ الحق سبحانه كفار مكة بغيظهم ، وكفى المؤمنين القتال أراد أنْ يتحوَّل إلى الجبهة الأخرى ، جبهة بني قريظة ، فلما رجع رسول الله من الأحزاب لقيه جبريل عليه السلام فقال : أوضعتَ لأْمتَك يا محمد ، ولم تضع الملائكة لأمتها للحرب ؟ اذهب فانتصر لنفسك من بني قريظة ، فقال رسول الله للقوم : " مَنْ كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " . فاختلف الصحابة حول هذا الأمر : منهم مَنْ انصاع له حرفياً ، وأسرع إلى بني قريظة ينوي صلاة العصر بها ، ومنهم مَنْ خاف أنْ يفوته وقت العصر فصلى ثم ذهب ، فلما اجتمعوا عند رسول الله أقرَّ الفريقين ، وصوَّب الرأيين . وكانت هذه المسألة مرجعاً من مراجع الاجتهاد في الفكر الإسلامي ، والعصر حَدَثٌ ، والحدث له زمان ، وله مكان ، فبعض الصحابة نظر إلى الزمان فرأى الشمس توشك أنْ تغيب فصلَّى ، وبعضهم نظر إلى المكان فلم يُصَلِّ إلا في بني قريظة لذلك أقر رسول الله هذا وهذا . وينبغي على المسلم أنْ يحذر تأخير الصلاة عن وقتها لأن العصر مثلاً وقته حين يصير ظِلُّ كل شيء مِثْلَيْه وينتهي بالمغرب ، وهذا لا يعني أن تُؤخِّر العصر لآخر وقته ، صحيح إنْ صليْتَ آخر الوقت لا شيء عليك ، لكن مَنْ يضمن لك أن تعيش لآخر الوقت . إذن أنت لا تأثم إنْ صلّيْت آخر الوقت ، لكن تأثم في آخر لحظة من حياتك حين يحضرك الموت وأنت لم تُصَلِّ لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الأعمال الصلاة لوقتها " فليس معنى امتداد الوقت إباحة أنْ تُؤخَّر . وفي مسألة الأحزاب بطولة أخرى لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد ظهرت هذه البطولة عندما وجد الكفار في الخندقة نقطة ضعيفة ، استطاعوا أنْ يجترئوا على المسلمين منها ، وأن يقذفوا منها خيولهم ، فلما قذفوا بخيولهم إلى الناحية الأخرى ، فجالت الخيل في السبخة بين الخندق وجبل سلع ، ووقف واحد من الكفار وهو عمرو بن ود العامري وهو يؤمئذ أشجع العرب وأقواها حتى عدَّوْه في المعارك بألف فارس . " وقف عمرو بن ود أمام معسكر المسلمين يقول وهو مُشْهِر سيفه : مَنْ يبارز ؟ فقال علي لرسول الله : أبارزه يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " اجلس يا علي ، إنه عمرو " فأعاد عمرو : أين جَنّتكم التي وعدتم بها مَنْ قُتِل في هذا السبيل ؟ أجيبوني . فقال علي : أبارزه يا رسول الله ؟ قال : " اجلس يا علي ، إنه عمرو " وفي الثالثة قال عمرو : * وَلَقَدْ بُحِحْتُ من النِّداءِ * بجمعِكُمُ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ * * وَوقفْتُ إذ جَبُنَ المشجَّعُ * مٌُوْقِفَ القِرْن المنَاجزْ * * إنَّ الشَّجاعَة في الفَتَى * والجودَ مِنْ خير الغرائِز * عندها انتفض علي رضي الله عنه وقال : أنا له يا رسول الله ، فأَذِن له رسول الله ، فأشار علي لعمرو ، وقال : * لاَ تَعجَلَنَّ فَقَدْ أتَاكَ * مجيب صوتِكَ غير عَاجِز * * ذُو نية وبَصيرة * والصِّدْقُ مُنجِي كُلَّ فَائزْ * * إنِّي لأَرْجُو أنْ أُقيم * عَلْيك نَائِحةَ الجنَائزْ * * مِنْ ضَرْبةٍ نَجْلاَء * يَبْقَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الهَزَاهِزْ * أي : الحروب . وكانت لسيدنا رسول الله درع سابغة اسمها ذات الفضول ، فألبسها رسول الله علياً وأعطاه سيفه ذا الفقار وعمامته السحاب ، وكانت تسعة أكوار ، وخرج علي رضي الله عنه لمبارزة عمرو بن ود ، فضرب عمرو الدرقة فشقَّها ، فعاجله على بضربة سيف على عاتقه أردتْهُ قتيلاً ، فقال عليٌّ ساعة وقع : الله أكبر سمعه رسول الله فقال : " قُتِل عدو الله " . ثم حدثت زوبعة العِثْيَر - وهو غبار الحرب - فحَجبت المعركة ، فذهب سيدنا عمر رضي الله عنه ليرى ما حدث ، فوجد علياً يمسح سيفه في درع عمرو بن ود ، فقال : الله أكبر ، فقال رسول الله : " قُتِل وأَيْم الله " . ومن الأخلاق الكريمة التي سجَّلها سيدنا علي في هذه الحادثة أنه بعد أنْ قتل عَمْراً سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَلاَ سلبْتَ دِرْعه ، فإنه أفخر درع في العرب " ؟ فقال علي : والله لقد بانت سوأته ، فاستحييت أنْ أصنع ذلك . ثم أنشد رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه ، وهو يشير إلى عمرو : * نَصَر الحجَارةَ من سَفَاهَة رَأْيه * ونَصَرْتُ ربَّ مُحمدٍ بصَوابي * * فصَددْتُ حِينَ تركْتُه مُتجدِّلاً * كالجِذْعِ بين دَكَادِكَ ورَوَابي * وعَفَفْتُ عن أثْوَابهِ وَلَو أنّني * كنتُ المُقَنْطَر بَزَّنِي أثْوابِي * وفي هذه الواقعة قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو لم يكن لك يا علي غيرها في الإسلام لَكَفَتْكَ " " . لذلك قال العارفون بالله كأن علياً رضي الله عنه حُسِد حين قتل عمرو بن ود ، فأصابته العين في ذاته ، فقُتِل بسيف ابن ملجم ، ومن هنا قالوا : أعزّ ضربة في الإسلام ضربة عليٍّ لعمرو بن ود ، وأشأم ضربة في الإسلام ضربة ابن ملجم لعلي . وفي المعركة بطولة أخرى لسيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه حيث يقول : ضربني يوم الأحزاب حِبَّان بن قيس بن العَرِقة ، وقال : خُذْها وأنا ابن العَرِقة - فقلت : عرَّقَ الله وجهك في النار ، فلما أصابني في أكحلي - والأكحل هو : العِرْق الذي نضع فيه الحقنة ، ومنه يخرج دم الفَصْد والحجامة . فقلت : اللهم إنْ كانت هذه آخر موقعة بيننا وبين قريش فاجعلني شهيداً ، وإنْ كنت تعلم أنهم يعودون فأبقني لأشفي نفسي مِمَّنْ أخرج رسول الله وآذاه ، ولا تُمِتْني حتى أشفى غليلي من بني قريظة . وقد كان ، فبعد أنْ مكث الأحزاب وبنو قريظة قرابة خمسة وعشرين يوماً دون قتال ، وانتهى الأمر بالمفاوضات اختار سيدنا رسول الله سعد بن معاذ ليكون حكَماً في هذه المسألة ، فحكم سعد بقتل المقاتلين منهم ، وأسر الذراري والنساء والأموال ، فلما بلغ هذا الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لقد حكمتَ فيهم حكم ربك من فوق سبع سماوات " . ثم ثار الجرح على سيدنا سعد حتى مات به ، فحملوه إلى خيمة رسول الله بالمسجد ، فجاءت الملائكة تقول لرسول الله : مَنْ هذا الذي مات ، وقد اهتزَّ له عرش الرحمن ؟ قال : " إنه سعد بن معاذ " . وقد قال تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } [ الأحزاب : 26 ] . وفي قوله تعالى : { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا … } [ الأحزاب : 27 ] بشارة للمسلمين بأن البلاد ستُفتح لهم دون قتال ، وهذا حال جمهرة البلاد التي دخلها الإسلام ، فغالبية هذه البلاد فُتِحَتْ بالأُسوْة السلوكية للمسلمين آنذاك ، وبذلك نستطيع أن نردَّ على مَنْ يقول : إن الإسلام انتشر بحدِّ السيف . وإذا كان الإسلام انتشر بحَدِّ السيف ، فأيُّ سيف حمل المسلمين الأوائل على الإسلام وكانوا من ضعاف القوم لا يستطيعون حتى حماية أنفسهم ؟ إذن : لا شيء إلا قدوة السلوك التي حملت كل هؤلاء على الإيمان . وسبق أن ذكرنا أن عمر - رضي الله عنه - وما أدراك ما عمر قوة وصلابةً يقول حين سمع قول الله تعالى : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . قال : أيُّ جمع هذا ، ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا ؟ مما يراه من ضعف المسلمين وبطش الكافرين . ثم لو انتشر الإسلام بالسيف لأصبح سكان البلاد التي دخلها الإسلام كلهم مسلمين ، ولَمَا كانت للجزية وجود في الفقه الإسلامي ، إذن : بقاء الجزية على مَنْ لم يؤمن دليل على بطلان هذه المقولة ، ودليل على عدم الإكراه في الدين ، فالفتح الإسلامي كفل حرية العقيدة { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] وعليه الجزية لبيت مال المسلمين مقابل ما تقدمه الدولية إليه من خدمات . فالجزية التي تتخذونها سُبة في الإسلام دليل على أن الإسلام أقرَّكم على دينكم ، إنما حَمْل السيف كان فقط لحماية الاختيار في الدعوة ، فأنا سأعرض الإسلام على الناس ، ومن حقي أنْ أقاتل مَنْ يعارضني بالسلاح ، من حقي أن أعرض الإسلام كمبدأ ، فمَنْ آمن به فعلى العين والرأس ، ومَنْ لم يؤمن فليَبْقَ في ذمتنا . ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ … } .