Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 31-31)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { يَقْنُتْ … } [ الأحزاب : 31 ] أي : يخضع لله تعالى الخضوع التام ، ويخشع ويتذلَّل لله في دعائه ، واختار الحق سبحانه القنوت لأنه سبحانه لا يحب من الطائع أنْ يُدِلَّ على الناس بطاعته لذلك يقول العارفون : رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً ، خير من طاعة أورثتْ عِزَّاً واستكباراً . أو { وَمَن يَقْنُتْ … } [ الأحزاب : 31 ] أي : بالغ في الصلاح ، وبالغ في الورع حتى ذهب إلى القنوت ، وهو الخضوع والخشوع . والنتيجة { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ … } [ الأحزاب : 31 ] فالآية السابقة تقرر مضاعفة العذاب لمن تأتي بالفاحشة ، وهذه تقرر مضاعفة الأجر لمن تخضع لله وتخشع وتعمل صالحاً . { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] أي : أعددناه وجهّزناه لها من الآن ، فهو ينتظرها . وحين تتأمل الأسلوب القرآني في هاتين الآيتين تطالعك عظمة الأداء ، فحين ذكر الفاحشة ومضاعفة العذاب جاء الفعل { يُضَاعَفْ … } [ الأحزاب : 30 ] مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله ، أما في الكلام عن القنوت لله ، فقال { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا … } [ الأحزاب : 31 ] فجاء الفعل مُسْنداً إلى الحق سبحانه مباشرة ، وكأن الحق سبحانه لم يُرِدْ أنْ يواجه بذاته في مقام العذاب ، إنما واجه بالعذاب فقط . ومجرد بناء الفعل { يُضَاعَفْ … } [ الأحزاب : 30 ] للمجهول يدل على رحمة الله ولُطْفه في العبارة ، فالحق سبحانه يحب خَلْقه جميعاً ، ويتحبب ويتودد إليهم ، ويرجو من العاصي أنْ يرجع ويفرح سبحانه بتوبة عبده المؤمن أكثر من فرح أحدكم حين يجد راحلته وقد ضلَّتْ منه في فلاة . وجاء في الأثر : " يا ابن آدم ، لا تخافنَّ من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا ينفد أبداً ، يا ابن آدم ، لا تخْشَ من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبداً ، يا ابن آدم ، خلقتُكَ للعبادة فلا تلعب - والمراد باللعب العمل الذي لا جدوى منه - وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب " . والمراد هنا لا تتعب ، ولا تشغل قلبك ، فالتعب يكون للجوارح ، كلما جاء في الحديث الشريف : " مَنْ بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له " ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يداً خشنة من العمل قال : " هذه يد يحبها الله ورسوله " . فالتعب تعب القلب ، فالشيء الذي يطيقه صدرك ، وتقدر على تحمُّله لا يُتعِبك لذلك نجد خالي الصدر من الهموم يعمل في الصخر وهو هادىء البال ، يغني بحداء جميل ونشيد رائع يُقوِّي عزيمته ، ويعينه على المواصلة ، فتراه مع هذا المجهود فَرِحاً منشرحَ الصدر . وقد فطن الشاعر العربي لهذه المسألة فقال : @ لَيْسَ بحمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهر مَا الحمْلُ إلاَّ مَا وَعَأهُ الصَّدْرُ @@ فالمعنى : أتعب جوارحك ، لكن لا تُتعِب قلبك ، والكَلَل والتعب لا يأتي على الجوارح إنما على القلب ، فأتعب جوارحك في العمل الجاد النافع الذي تأخذ من ثمرته على قدر حاجتك ، وتفيض بالباقي على غير القادرين . ثم يقول : " فإنْ أنتَ رضيتَ بما قَسمتْهُ لك أرحْتَ قلبك وبدنك وكنتَ عندي محموداً ، وإنْ أنت لم تَرْضَ بما قََسَمْتُه لكَ فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا تركضُ فيها ركْضَ الوحوش في البرية ، ثم لا يكون لك منها إلا ما قَسَمْتُه لك ، وكنت عندي مذموماً ، يا ابن آدم ، خلقتُ السماوات والأرض ولم أَعْيَ بخلقهن ، أَيُعْييني رغيفٌ أسوقه لك … يا ابن آدم ، لا تطالبني برزق غد كما لم أطالبك بعمل غدٍ ، يا ابن آدم أنا لم أَنْسَ مَنْ عصاني ، فكيف بمَنْ أطاعني ؟ " وشاهدنا هنا قوله تعالى في آخر الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، أنا لك محب فبحقي عليك كُنْ لي مُحِباً " . فربُّك يظهر لنا بذاته في مقام الخير وجلب النفع لك ، أما في الشر فيشير إليك من بعيد ، ويلفت نظرك برِفْق . كما نلحظ في أسلوب الآية قوله تعالى - والخطاب لنساء النَّبِي { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ … } [ الأحزاب : 31 ] ولم يقل تقنت … ثم أنَّثَ الفعل في { وَتَعْمَلْ صَالِحاً … } [ الأحزاب : 31 ] فمرة يراعي اللفظ ، ومرة يراعي المعنى ، وسبق أنْ قُلْنا إن مَنْ اسم موصول يأتي للمفرد وللمثنى وللجمع ، وللمذكر وللمؤنث . ونقف أيضاً هنا عند وصف الرزق بأنه كريم { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } [ الأحزاب : 31 ] قلنا : إن الرزق كل ما يُنتفع به من مأكل ، أو مشرب ، أو ملبس ، أو مسكن ، أو مرافق ، وقد يأتي في صورة معنوية كالعلم والحلم … إلخ ، وهذا الرزق في الدنيا لا يُوصف بأنه كريم ، إنما الكريم هو الرازق سبحانه ، فلماذا وصف الرزق بأنه كريم ؟ قالوا : فَرْق بين الرزق في الدنيا والرزق في الآخرة ، الرزق في الدنيا له أسباب ، فالسبب هو الرازق من والد أو وَالٍ أو أجير أو تاجر … إلخ فالذي يجري لك الرزق على يديه هو الذي يُوصف بالكرم ، أما في الآخرة فالرزق يأتيك بلا أسباب ، فناسب أنْ يُوصف هو نفسه بأنه كريم ، ثم فيها ملحظ آخر : إذا كان الرزق يوصف بالكرم ، فما بال الرازق الحقيقي سبحانه ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ … } .