Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 49-49)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تتحدث الآية عن مسألة اجتماعية تخصُّ حفظ النوع ، وحفظ النوع الإنساني لا يتأتَّى إلا بالزواج ، وهو وسيلة التكاثر ، وأولى مراحل الزواج مرحلة الخِطْبة ، وكثيرون لا يفهمون معنى الخِطْبة وحدودها لكل من الرجل والمرأة ، فالخِطبة مجرد أنْ يذهب طالب البنت إلى وليِّها ليقول له : أإذا تقدمتُ لطلب يد ابنتك أكون أهلاً للقبول ؟ فيقول وليُّها : مرحباً بك ، هذه تسمى خِطْبة ، وربما لا يتقدم ، فإنْ تقدَّم لها ، له أنْ يراها مرة واحدة بين محارمها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشاب الذي أراد الخطبة : " انظر إليها ، فإنه أحْرَى أنْ يُؤدَم بينكما " . وعجيب أنْ يخلط الناس بين الخِطْبة والعقد ، فيعطون الخِطْبة صفة العقد ، فإذا قيل الوليُّ الخاطبَ اتفق معه على المهر أو الشبكة وعلى كلِّ تفاصيل الزواج ، وأباح له أنْ يجلس مع ابنته ، وأنْ يتحدث معها ، وربما يختلي بها ، ويا ليتهم جعلوها عقداً ، فأخرجوا أنفسهم من هذا الحرج . فالخطبة إنْ عدل عنها الخاطب ما عليهم إلا أنْ يذهب إلى وليِّ البنت فيقول له : لقد طلبتُ منك يد ابنتك وأنا في حِلٍّ من هذا الأمر ، أما العقد فلا يُفسخ قبل الدخول إلا بالطلاق ، إذن : لا تجعلوها صورة خطبة وموضوعية عقد . والحق سبحانه وتعالى يُبيِّن لنا في هذه الآية الكريمة ما يتعلَّق بأحكام الطلاق إنْ وقع قبل الدخول بالزوجة : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا … } [ الأحزاب : 49 ] . فالنكاح هنا مقصود به العقد فقط ، وإلا لو قصد به المعنى الآخر لما قال { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ … } [ الأحزاب : 49 ] والمسُّ كناية عن الجماع ، وهو عملية دائماً يسترها القرآن بألفاظ لا تدل عليه حقيقة . والحكم هنا { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا … } [ الأحزاب : 49 ] فليس للزوج على زوجته عِدَّة إنْ طلَّقها قبل أنْ يدخل بها لأن العِدَّة إنما كانت لحكمة : فالعدة في حالة الطلاق الرجعي تعطي للزوج فرصة أنْ يراجع زوجته ، وأنْ يعيدها بنفسه إلى عصمته ، والعِدَّة تكون لاستبراء الرحم والتأكد من خُلوِّه من الحمل ، وقد تكون العِدَّة ، لا لهذا ولا لذاك ، ولكن لأنه تُوفِّي عنها . فالعِدَّة قبل الدخول لها حكم ، وبعد الدخول لها حكم آخر ، وهذا الفرق يتضح كذلك في مسألة المهر ، فقبل الدخول للزوجة نصف مهرها ، كما قال سبحانه : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ … } [ البقرة : 237 ] وقال هنا : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] فإنْ سُمِّي المهر بين الطرفين فلها نصفه ، وإنْ لم يُسَمَّ فلها نصف مهر المثْل . أما العِدَّة بعد الدخول ففيها تفصيل ، بحيث تختلف من حالة لأخرى بما يناسب الحالة التي تشرع فيها العِدَّة ، والعِدَّة كما قلنا : تدل على أنها شيء معدود ، فإنْ كانت المرأة من ذوات الحيض ، فهي ثلاث حيضات ، ليتأكد خلالها استبراء الرحم ، لكن الرحم يستبرىء من مرة واحدة ، فلماذا جعلها الله ثلاث حيضات ؟ قالوا : الهدف من ذلك إعطاء الزوج فرصة ، فقد يراجع نفسه وتهدأ نفسه ، فيراجع زوجته في هذه المدة ، فالشرع هنا يراعي بناء الأسرة ، أَلاَ ترى أن الحق سبحانه شرع التقاء الزوج بزوجته بكلمة : زوِّجني وزوَّجتك ، أما في حالة الطلاق والفراق بين الزوجين ، فجعله على ثلاث مراحل لأن الله تعالى يريد ألاَّ يجعل للغضب العابر سبيلاً لنقْضِ كلمة الله في الزواج . وأذكر أنهم كانوا يسألوننا سؤالاً وكأنه لغز : أو يعتدُّ الرجل ؟ أو : أو ليس للمرأة عِدَّةٌ عند الرجل ؟ قالوا : نعم ، يعتدُّ الرجل في حالة واحدة وهي : إذا تزوج امرأة ثم طلقها ، وأراد أن يتزوج بأختها ، فعليه أن يمضي العدة ليحلَّ له الزواج بأختها . أما عِدَّة التي انقطع عنها الحيض فثلاثة أشهر ، وعدة الحامل أنْ تضع حملَها ، أما عدة المتوفَّي عنها زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيام ، لكن ما الحكم إذا اجتمع للمرأة الحملُ مع وفاة الزوج ، فكيف تعتدُّ ؟ قالوا : تعتدُّ في هذه الحالة بأبعد الأجلين : الحمل ، أو الأربعة أشهر وعشرة أيام . ولك أنْ تسأل : لماذا كانت عِدَّة المطلَّقة ثلاثة أشهر ، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ؟ قالوا : لأن هناك فَرْقاً بين الطلاق والوفاة بالنسبة لعلاقة الزوج بزوجته ، سببه أن الذي خلق الذكر والأنثى جعل هناك كلمة تجمعهما ، هذه الكلمة هي : زوِّجني وزوَّجتُك شريطة أنْ تكون علانية على رءوس الأشهاد ، ولا تستهنْ بهذه الكلمة ، فأنت لا تعلم ما الذي تصنعه هذه الكلمة في ذرات التكوين الإنساني ، ولكنك تعرفها بآثارها . وقلنا : هَبْ أنك تعرضتَ لشاب تعوَّد معاكسة ابنتك مثلاً ، ماذا تصنع أنت ؟ لا شكَّ أنك ستثور ، ويفور دمك ، وتأخذك الغَيْرة ، وربما تعرضْتَ له بالإيذاء ، أما إنْ جاء من الباب ، وطلب يدها منك ترحب به وتسعد ويفرح الجميع ، فما الذي حدث ؟ وما الفرق بين الموقفين ؟ فالذي أهاجك أنه تلصَّص عليها من غير إذن خالقها ، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " . " ويقول رسول الله لرجل كان مشهوراً بالغيرة على بناته ، وقد جاء يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زواج إحدى بناته ، فضحك رسول الله وقال : " جدع الحلال أنف الغيرة " . فالعقد الذي يجمع الزوجين على كلمة الله يجعل الله به بين الزوجين سِيَالاً حلالاً عند كل منهما ، ويلتقي هذان السيالان في الحلال وتحت مظلة الشرع الذي جمعهما . وعادة ما يصاحب الطلاق بُغْضٌ من الطرفين ، أو كُرْه من أحدهما للآخر لذلك تكون العِدَّة بينهما ثلاثة أشهر أو وَضْع الحمل لأن الكراهية التي حدثتْ بينهما تميت خلايا الالتقاء بين الأنسجة ، وتُسرِع بانتهاء ما بينهما من سِيال وتطْمسه . أما في حالة موت الزوج ، فقد قطع النكاح قدرياً من الله ، فعادة ما تكون الزوجة مُحبَّة لزوجها ، حزينة على فَقْده ، وتأتي فاجعة الموت ، فتزيدها حُباً له ، وفي هذه الحالة ليس من السهل أنْ ينتهي السيَّال بينهما لذلك يشاء الخالق سبحانه أنْ يطيل أمد العِدَّة إلى أنْ ينتهي هذا السِّيال الذي جمعهما ، فلا يدخل على سيال الرجل سيال جديد ، فيحدث صراع بين السيالين لذلك كانت عِدَّة المتوفي عنها زوجها أطول من عدة المطلقة . وقوله تعالى : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ … } [ الأحزاب : 49 ] يعني : أن الطلاق قبل المسِّ والدخول كان موجوداً كما هو موجود الآن ، ونحن نرى الطرفين أو أحدهما يتعجَّل العقد ، رغم أنه غير مُستعد لنفقات الزواج ، إنما يتعجله لمصلحة تعود عليه من هذا الارتباط . وقد ذكر لنا التاريخ أن كثيراً من الأسر ، خاصة الأسر العربية الأصيلة كانت تفعل ذلك ، لكنهم لم يكونوا يسمحون للزوج في هذه الحالة أنْ يختلي بالزوجة ، وإنْ كان عاقداً عليها ، وبعض فيتاتنا لهن قصص مُشرِّفة في هذه المسألة . ومما رُوي في هذا الصدد قصة بهيثة بنت أوس بن حارثة الطائي والحارث بن عوف ، وهو سيد من سادات بني مُرَّة ، وكان للحارث ابن عوف صديق اسمه ابن سنان ، وفي ليلة جلس الحارث يتسامر مع صديقه ابن سنان فقال له : ترني لو أنني خطبتُ إلى أحد من العرب ابنته أيردّني ؟ قالها وهو مُعْتَزٌّ بنفسه فخور بسيادته على قومه . فلما رآه صاحبه على هذه الحالة قال له : نعم هناك مَنْ يردُّك ، قال : مَنْ ؟ قال : أوس بن حارثة الطائي ، فنادى الحارث على غلامة وقال : أحضر المراكب ، وهيا بنا إلى أوس بن حارثة الطائي ، فذهبوا إليه ، فوجدوه جالساً في فناء بيته ، فلما رآه أوس قال له : مرحباً بك يا حارث ، فأقبل عليه الحارث ، وقال : ويك يا أوس ، ما الذي جاء بك ؟ وتركه على دابته - قال : جئتُك خاطباً لابنتك ، فقال له : لستَ هناك - يعني لستَ أهْلاً لها - فلوى الحارث زمام دابته منصرفاً ، في حين بدا على ابن سنان الارتياح لأن كلامه صدق في صاحبه . فلما دخل أوس على امرأته سألتْه : مَنْ رجلٌ وقف معك فلم يُطل ولم ينزل ؟ قال : إنه الحارث بن عوف سيد من سادات بني مُرَّة ، فقالت : ولماذا لم تستنزله عندك ؟ قال : لقد استحمق - يعني : ارتكب حُمْقاً - قالت : وكيف هذا ؟ قال : إنه جاء يخطب ابنتي ، قالت : عجباً أو لا تريد أن تُزوِّج بناتك ؟ قال : بلى ، قالت : فإذا كنتَ لا تُزوِّجهن من سادات العرب ، فمَنْ تُزوِّجهن ؟ يا أوس ، اذهب فتدارك الأمر ، قال : كيف وقد فرطَ مني ما فرط ؟ قالت : الحقْ به ، وقُلْ له : إنك جئتني وأنا مُغْضب من أمر لا دخْلَ لك فيه ، ولما راجعتُ نفسي جئتُك معتذراً أطلب منك أنْ تعود ، ولك عندي ما تحب . فذهب الرجل ، فلم يجد الركْبَ ، فشدَّ على راحلته ، حتى صار بينهما في الركْب ، فالتفت ابنُ سنان ، وقال : يا ابن عوف ، هذا أوس يلحق بنا ، فقال : وماذا أصنع به امْضِ ، فناداه أوس : يا حارث : اربع عليَّ ساعة ، يعني : انتظرني - ولك عندي ما تحب ، ففرح الحارث وعاد معه . عاد أوس إلى بيته ، وقال لامرأته : ادْعي ابنتك الكبرى ، فجاءت ، فقال : با بُنيَّة إن الحارث بن عوف سيد بني مرة جاء ليخطبك فقالت : لا تفعل يا أبي ، فقال : ولم ؟ قالت : إنني امرأة في وجهي ردّة - يعني قُبْح يردُّ مَنْ يراني - وفي خُلُقي عُهْدة - أي عيب - وليس بابن عم لي فيرعى رحمي ، ولا بجَار لك في بلدك فيستحي منك ، وأخاف أنْ يكره مني شيئاً ، فيُطلِّقني فيكون عليَّ فيه ما تعرف . فقال لها : قُومي ، بارك الله فيك . ثم قال لامرأته : ادْعِي ابنتك الوُسْطى فجاءتْ ، فقال لها ما قال لأختها ، فقالت : لا تفعل يا أبي ، قال : ولم ؟ قالت : أنا امرأة خرقاء - يعني : لا تُحسِن عملاً - وليست لي صناعة ، وأخاف أنْ يرى مني ما يكره فيُطلِّقني ، ويكون فيَّ ما يكون فقال لها : قومي بارك الله فيك ، وادْعِي أختك الصغرى ، وكانت هذه هي بُهَيْثة التي نضرب بها المثل في هذا الموقف . لما عرض عليها أبوها الأمر قالت : افعل ما ترى يا أبي ، قال : يا بُنيَّتي ، لقد عرضتُه على أُختيك فأبتَاهُ ، قالت : لكني أنا الجميلة وجهاً الصَّناعُ يداً ، الرفيعة خُلُقاً ، فإنْ طلَّقني فلا أخلفَ اللهُ عليه ، فقال : بارك الله فيك . ثم قام إلى الحارث وقال : بُورِكَ لك يا حارث ، فإنِّي زوَّجتك ابنتي بهيثة ، فبارك الله لكما ، قال : وأنا قبلتُ زواجها . ثم قال لامرأته : هَيِّئي ابنتك ، واصنعي لها فُسْطاطاً بفناء البيت ، ولما صُنع الفسطاط حُملت إليه بهيثة ، ودخل عليها الحارث ، لكنه لم يلبث طويلاً حتى خرج ، فسأله ابنُ سنان : أفرغتَ من شأنك ؟ قال : لا والله ، يا بن سنان ، قال : ولم ؟ قال : جئتُ لأقترب منها . فقالت : أعند أبي وإخوتي ؟ والله لا يكون ذلك أبداً ، فخرجتُ . فقال : ما دامتْ لا ترضى وهي عند أبيها وإخوتها ، فهيَّا بنا نرحل ، فأمر بالرحيل ، وسار الركب بهم طويلاً ، ثم قال : يا بن سنان تقدَّم أنت - يعني : أعطنا الفرصة - فتقدَّم ابن سنان بالركْبِ ، وانحاز الحارث بزوجته إلى ناحية من الطريق ونصب خيمته ، ثم دخل عليها فقالت له : ما شاء الله ، أتفعل بي كما يُفعل بالسَّبِيَّة الأخيذة ، والأَمَة الجليبة ؟ والله لا يكون ذلك حتى أذهب إلى أهلك وبلدك ، وتذبح لي الذبائح ، وتدعو سادة العرب ، وتصنع ما يصنعه مثلك لمثلي . الشاهد هنا - وهو درس لبنات اليوم - أنها لم ترْضَ لزوجها ، ولم تقبل منه في بيت أبيها ، ولا في الطريق ، ولم تتنازل عن شيء من عِزَّتها وكبريائها ، مع أنها زوجته . وفعلاً تمَّ لها ما أرادت ، وذُبِحَتْ لها الذبائح ، ودُعي لها سادات العرب ، فلما دخل عليها وحاول الاقتراب منها ، قالت : لقد ذكرتَ لي شرفاً ما رأيتُ فيك شيئاً منه ، فقال : ولم ؟ قالت : أتفرغُ لأمر النساء والعرب يقتلُ بعضُهم بعضاً - تريد الحرب الدائرة وقتها بين عبس وذبيان - اذهب فأصلح بينهما ، ثم عُدْ لأهلك ، فلن يفوتك مني شيء ، فذهب الحارث وابن سنان ، وأصلحا بين عبس وذُبْيان ، وتحمَّلا ديات القتلى ثلاثة آلاف بعير يُؤدُّونها في ثلاث سنوات ، ثم عاد إليها ، فقالت له : الآن لك ما تريد . وهذه الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ … } [ الأحزاب : 49 ] بظاهرها أعطتْ فهماً لبعض الناس الذين يريدون أن يتحلَّلوا من أحكام الدين في أشياء قد ترهقهم : فمثلاً الذي طلَّق امرأته ثلاث مرات ، واستوفى ما شُرِع له من مرات الطلاق حكمه أنه لا تحلُّ له زوجته هذه إلا بعد أن تنكَح زوجاً غيره ، فيأتي مَنْ يقول - بناءً على الآية السابقة - ما دام النكاح هنا بمعنى العقد فهو إذن كَافٍ في حالة المرأة التي طُلِّقت ثلاث مرات ، وأنها تحِلّ لزوجها الأول بمجرد العقد على آخر . ونقول : لكن فاتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فُوِّض من ربه بالتشريع وبيان وتفصيل ما جاء في كتاب الله من أحكام ، كما قال سبحانه مخاطباً نبيه : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ … } [ النحل : 44 ] . فلو أن سُنَّة رسول الله لم تتعرَّض لهذه المسألة ، لَكانَ هذا الفهم جائزاً في أن مجرد العقد يبيح عودة الزوجة لزوجها ثانية ، لكن الذي أناط الله به مهمة بيان القرآن وقال عنه : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . إذن : فهو صلى الله عليه وسلم له حَقُّ التشريع ، وقد بيَّن لنا المراد هنا في قوله تعالى : { حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ … } [ البقرة : 230 ] . فأبقى كلمة النكاح على أنها مجرد العقد ، ثم بيَّن المراد من ذلك ، فقال للرجل : " حتى تذوق عسيلته ، ويذوق عسيلتها " إذن : تمام الآية لا يجيز لمن يقول : إن مجرد العقد يبيح للرجل أنْ يعيد زوجته التي طُلِّقَتْ ثلاث مرات إلا بعد أن تذوق عُسَيْلته ، ويذوق عُسيَلْتها ، وهذه المسألة جعلها الله تأديباً للرجل الذي تعوَّد الطلاق ، وسَهُلَ عليه النطق به ، حتى صار على لسانه دائماً . ومن رحمة الخالق بالخَلْق ، ومن حرصه - تبارك وتعالى - على رباط الأسرة أنْ أحلَّ المرأة للرجل كما قلنا بكلمة زوَّجني وزوّجتك لكن عند الفراق لم يجعله بكلمة واحدة ، إنما جعله على مراحل ثلاث لُيبقِي للمودة وللرحمة بين الزوجين مجالاً ، فإنِ استنفد الزوج هذه الفرص ، وطلَّق للمرة الثالثة فلا بُدَّ أن نحرق أنفك بأنْ تتزوج امرأتُكَ من زوجٍ غيرك زواجاً حقيقياً تمارس فيه هذه العملية ، وهي أصعب ما تكون على الزوج . ونلحظ هنا أن دقَّة التشريع أو صعوبته في كثير من المسائل لا يريد الله منه أنْ يُصعِّب على الناس ، وإنما يريد أن يرهِّب من أنْ تفعل ذلك ، يريدك أنْ تبتعد عن لفظ الطلاق ، وألاَّ تلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى . لذلك يُعلِّمنا سيدنا رسول الله فيقول : " إن أبغض الحلال عند الله الطلاق " فالذين يعترضون على الطلاق في شرعنا ، ويتعجَّبون كيف يفارق الزوجُ زوجته بعد العِشْرة الطويلة والحب والمودة يفارقها بكلمة ، وفاتَ هؤلاء أن الطلاقَ وإنْ كان الأبغض إلا أنه حلالٌ ، ويكفي أن الله تعالى جعله على مراحل ثلاث ، وجعله لا يُستخدم إلا عند الضرورة ، وحذَّر الرجل أنْ يتساهل فيه ، أو يُجرِيه على لسانه ، فيتعوَّده . ونلحظ أن الحق سبحانه خصَّ المؤمنات في قوله : { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ … } [ الأحزاب : 49 ] مع أن المؤمن يُبَاح له أنْ يتزوج من الكتابية ، مسيحية كانت أو يهودية ، فكأن في الآية إشارةً لطيفة لمن أراد أنْ يتزوج فليتزوج مؤمنة ، ولا يُمكِّن من مضجعه إلا مؤمنة معه ، وهذا احتياط في الدين ، فالمؤمنة تكون مأمونة على حياته وعلى عِرْضه ، وعلى أولاده وماله ، فإن غير المؤمنة لا تُؤتمن على هذا كله . وقد رأينا بعض شبابنا الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب ، وتزوجوا من أجنبيات ، وبعد الزواج ظهرت النكبات والمصائب ، فالأم لا تنسى أنها يهودية أو نصرانية ، وتبثّ أفكارها ومعتقداتها في الأولاد ، إذن : فعلى المؤمن أنْ يختار المؤمنة لأنها مؤتمنة عليه وعلى بيته . وأذكر حين سافرنا إلى الخارج ، كنا نُسْأل : لماذا أبحتُم لأنفسكم أنْ تتزوجوا الكتابية ، ولم تبيحوا لنا أن نتزوج المسلمة ؟ وكان بعض الآباء يأتون ببناتهم اللائي وُلِدْن في ألمانيا مثلاً ، وكانت البنت تُحاج والدها بهذه المسألة ، لماذا لا أتزوج ألمانياً كما تزوجْتَ أنت ألمانية ؟ فكنا نرد على بناتنا هناك : بأن المسلم له أن يتزوج كتابية لأنه يؤمن بكتابها ، ويؤمن بنبيِّها ، لكن كيف تتزوجين أنت من الكتابي ، وهو لا يؤمن بكتابك ، ولا يؤمن بنبيك ؟ إذن : فالمسلم مُؤْتَمن على الكتابية ، وغير المسلم ليس مُؤتمناً على المسلمة . وقوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس هذه المسألة : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ … } [ البقرة : 237 ] . ويمكن أنْ نُوفِّق بين هاتين الآيتين بأن الأولى نزلتْ فيمَنْ لم يُفْرض لها مهر ، والثانية فيمَنْ فُرِض لها مهر ، التي لم يُفرض لها مهر لها المتعة { فَمَتِّعُوهُنَّ . . } [ الأحزاب : 49 ] والتي فُرض لها مهر لها نصفه ، فكل آية تخصُّ وتعالج حالة معينة ، وليس بين الآيتين نَسْخ . وبعض العلماء يرى أنه لا مانع ، إنْ فُرِضَ لها مهر أنْ يعطيها المتعة فوق نصف مهرها ، وهذا رأي وجيه ، فالعدل أنْ تأخذ نصف ما فُرِض لها ، والفضل أنْ يعطيها المتعة فوق هذا النصف ، وينبغي أنْ تبنى المعاملات دائماً على الفضل لا على مجرد العدل ، وربنا عز وجل يُعلِّمنا ذلك ، حين يعاملنا سبحانه بفضله لا بعدله ، ولو عاملنا بالعدل لهلكنا جميعاً . لذلك جاء في دعاء الصالحين : اللهم عاملْنَا بالفضل لا بالعدل ، وبالإحسان لا بالميزان ، وبالجبر لا بالحساب . نعم ، فإن لم يكُنْ في الآخرة إلا الحساب ، فلن يكسب منا أحدٌ ، وقد ورد في الحديث : " مَنْ نُوقِشَ الحساب عُذِّب " . ويقول سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . فالفرح لا يكون إلا حين يشملك فضْل الله ، وتعمُّك رحمته ، وفي الحديث الشريف : " " لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أنْ يتغمدني الله برحمته " . فإنْ قُلْتَ : فكيف نجمع بين هذه النصوص من القرآن والسنة ، وبين مكانة العمل ومنزلته في مثل قوله تعالى : { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النحل : 32 ] . قالوا : صحيح أن للعمل منزلته وفضله ، لكنك حين تعبد الله لا تُقدم لله تعالى خدمة بعبادتك له ، إنما الخدمة مُقدَّمة من الله لك في مشروعية العبادة ، وإلا فالله تعالى بكل صفات الكمال خلقك وخلق الكون كله لك ، فإنْ كلَّفك بعد ذلك بشيء ، فإنما هو لصالحك ، كما تكلف ولدك بالجد والمذاكرة . ثم لو أنك وضعتَ عملك في كِفَّة ، ونِعَم الله عليك في كفة لما وفَّتْ أعمالك بما أخذْتَه من نِعَم ربك . إذن : إنْ أثابك بعد ذلك في الآخرة فإنما بفضله تعالى عليكَ ورحمته لك . ومثَّلْنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - بقولك لولدك : لو نجحتَ آخر العام سأُعطيك هدية أو مكافأة ، فمع أنه هو المستفيد من نجاحه إلا أنك تزيده لأنك مُحِبٌّ له وتحب له الخير . إذن : ينبغي أنْ نتعامل بهذه القاعدة ، وأنْ نتخلَّق بهذا الخلق ، خاصة في مثل هذه الحالة ، حالة الزوجة التي طُلِّقَتْ قبل الدخول بها . فإنْ قُلْتَ : ولماذا تأخذ الزوجة التي طُلِّقت قبل الدخول بها نصف المهر والمتعة أيضاً ؟ نقول : هو عِوَض لها عن المفارقة ، فإنْ كانت هي المُفَارقة الراغبة في الطلاق ، فليس لها شيء من المهر أو المتعة ، إنما عليها أنْ تردَّ على الزوج ما دفعه ، كما جاء في حديث المرأة التي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره أنها لا تريد البقاء مع زوجها ، فقال لها : " رُدِّي عليه ما دفعه لك " وهذه العملية يسميها العلماء الخُلْع . ثم بعد أن ذكر الحق سبحانه مسألة المتعة قال : { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] . السَّرْح في الأصل : شجر له ثمر ، يوجد في البوادي ، ترعاه الماشية وتحبه ، فالكبيرة منها تأكل من أعلى الشجرة ، أما الصغيرة فيتعهدها الراعي إنْ كان عنده دقة رعاية ، بأنْ يضرب بعصاه غصون الشجرة ، فتتساقط منها بعض الأوراق ، فيأكلها الصغار . ومن ذلك قوله تعالى عن عصا موسى عليه السلام : { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] . ورُوي أن سيدنا عمر مرَّ على راعٍ فقال له : يا راعٍ ، فنظر الراعي إلى أمير المؤمنين ، وقال : نعم يا راعينا - يعني : أنا راعي الغنم وأنت راعي الراعي ، فكأنه لا يتكبر راعٍ على راعٍ - فقال عمر : يا هذا في الأرض التي تبعد عنك كذا وكذا سَرْح أجمل من هذا وأخصب ، فاذهب إليه بماشيتك . وهذا درس في تحمُّل مسئولية الرعية والحرص عليها ، وكان عمر رضي الله عنه خير مَنْ تحمَّل هذه المسئولية ، فيُرْوى أن سيدنا عمر وسيدنا عبد الرحمن بن عوف رأيا جماعة من التجار عابري السبيل يلجئون إلى المسجد للمبيت فيه ، منهم مَنْ يحمل بضاعته ، ومنهم مَنْ يحمل ثمن بضاعة باعها ، فخافا أن يجترىء عليهم أحد فيسرقهم ، فبات عمر وعبد الرحمن يتسامران حتى الفجر لحراسة هؤلاء العابرين . وحتى الآن ، في الفلاحين يقول الذاهب في الصباح إلى الحقول نسْرَحْ وللعودة آخر النهار نروح ، ثم تُدوول هذا اللفظ فأْطلق على كل خروج إلى شيء ، ومن ذلك نقول : اعطني التسريح ، فكأني كنت محبوساً فسمح لك بالخروج ، ومن ذلك تسريح الزوجة . لكن تسريح الزوجة وصفه الله تعالى بقوله { سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] وكل شيء وُصِف في القرآن بالجمال له مزية في ذاته ، كما في { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ … } [ يوسف : 18 ] وتسريح الزوجة عادة ما يصاحبه غضب وانفعال ، فينبغي أنْ يكون التسريح جميلاً لا عنفَ فيه ، كأنْ يُطيِّب خارطها بقوله : هذا قدرنا ، وأرجو الله أن يُعوِّض عليك بخير مني أو غير ذلك ، مما يراه مناسباً لتخفيف الخطْب عليها ، ويكفي أن تتحمل هي ألم المفارقة ومصيبة الطلاق . وأيُّ جمال فيمَنْ يفارق زوجته بالسُّباب والشتائم ، ويؤذيها بأن يمنعها حقاً من حقوقها . وهذه الآية عالجتْ قضية هامة من قضايا الأسرة لأنها مرادة للحق سبحانه ، فالله تعالى خلق الإنسان الخليفة ، وهو آدم عليه السلام ، وخلق منه الزوجة ليُحقِّق منهما الخلافة في الأرض ، لكن لماذا هذه الخلافة ؟ قالوا : ليستمتعوا بآثار قدرة ربهم وحكمته في كونه ، كما تسعد أنت حين تأتي لأولادك بما لَذَّ وطابَ من الطعام ، وتفرح حين تراهم يأكلون ويتمتعون بما جئتَ به ، تفرح لأنك عدَّيْتَ أثر قدرتك للغير - ولله تعالى المثل الأعلى - . فما دام الحق سبحانه جعل الخليفة في الأرض ثم حدد مهمته ، فقال : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا … } [ هود : 61 ] إذن : لا بُدَّ أنْ يضمن لهذا الخليفة مُقوِّمات حياته ومُقوِّمات استبقاء هذه الحياة لا تكتمل إلا بمُقوِّمات بقاء النوع ، فإنه لن يعيش في الدنيا وحيداً لآخر الزمان . واستبقاء الحياة يكون بالقوت لذلك فإن ربك عز وجل قبل أنْ يستدعيك إلى الوجود ، وقبل أنْ يخلقك خلق لك ، خلق لك الشمس والقمر والنجوم والكواكب والأرض والهواء والماء ، فأعدَّ للخليفة كل مُقوِّمات حياته . واقرأ قول الله تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] . إذن : فمخازن القوت مملؤة { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] وما دام خالق البشر قدَّر لهم الأقوات مُقدَّماً ، فليست لك أن تقول " انفجار سكاني " قُلْ : إنك قصرْتَ في استنباط هذا القوت بما أصابك من كسل أو سوء تخطيط . ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] . ومن الكفر بنعمة الله سَتْرها بالكسل والقعود عن استنباطها ، وقد يَشْقى جيل بكسل جيل قبله ، لذلك لما تنبَّهنا إلى هذه المسألة ، وبدأنا نزرع الصحراء ونُعمِّرها انفرجتْ أزمتنا إلى حَدٍّ ما ، ولو بكَّرْنا بزراعة الصحراء ما اشتكينا أزمة ، ولا ضاقَ بنا المكان . والحق سبحانه يُعلِّمنا أنه إذا ضاق بنا المكان ألاَّ نتشبثَ به ، ففي غيره سعة ، واقرأ : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا … } [ النساء : 97 ] . لذلك يخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى في الخلوة الليلية معه : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلْلَّيْلِ … } [ المزمل : 20 ] إلى أن يقول : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ … } [ المزمل : 20 ] والمرضى غير قادرين على العمل ، فعلى القادر إذن أنْ يعمل ليِسُدَّ حاجته وحاجة غير القادر { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ المزمل : 20 ] . إذن : قانون الإصلاح الذي جعله الله لحياة البشر يقوم على دعامتين : الضرب في الأرض والسَّعْي في مناكبها ، وفيه مُقوِّمات الحياة ، ثم نقاتل في سبيل الله لبقاء الدعوة والمنهج ، فالأولى للقالب ، وبها نأكل ونشرب ونعيش ، والأخرى للقيم . فإنْ قعدتْ الأمة أو تكاسلتْ عن أيٍّ من هاتين الدعامتين ضاعتْ وهلكتْ وصارتْ مطمعاً لأعدائها لذلك تجد الآن الأمم المتخلفة فقيرة ، تعيش على صدقات الأمم الغنية لأنها كفرتْ بأنعم الله وسترتها ، ولم تعمل على استنباطها ، قعدتْ عن الاستعمار والاستصلاح . أما الأغنياء فعندهم فائض لا يُعْطى للفقراء ، إنما يُرْمى في البحر ويُعدَم ، لتظل لهم السيادة الاقتصادية ، لذلك نستطيع أنْ نقول بأن شر العالم كله والفساد إنما يأتي بكفر نعم الله ، إما بسترها وعدم استنباطها ، أو بالبخل بها على غير الواجد . ولأهمية القوت يأتي في مقدمة ما يمتنُّ الله به على عباده في قوله : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] . وكما ضَمِن الحق سبحانه للخليفة في الأرض مُقوّمات حياته ضَمِن له أيضاً بقاء نوعه ونَسْله ، وجعل ذلك بالزواج الذي شرَّعه الله ليأتي النسل بطريقة طاهرة شريفة ، لا بطريقة خسيسة دَنِسة ، وفَرْق بين هذا وذاك ، فالولد الشرعي تتلقفه أيدي الوالدين وتتباهَى به ، أما الآخر فإذا لم تتخلَّص منه أمه وهو جنين تخلصت منه بعد ولادته ، لأنه عار عليها . فالحق سبحانه شرع الزواج لطهارة المجتمع المسلم ونظافته وسلامته ، مجتمع يكون جديراً بأن يتباهى به سيدنا رسول الله يوم القيامة ، فقد ورد في الحديث الشريف : " تناكحوا تناسلوا ، فإنِّي مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة " . ثم يقول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا … } .