Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 58-58)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما تكلم الحق سبحانه عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات خَصَّ هذا الإيذاء بقوله { بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ … } [ الأحزاب : 58 ] لأن هناك إيذاءً مشروعاً أوجبه الله للذين يخرجون على حدوده ، فحَدُّ الزنا والقذف وشرب الخمر … إلخ كلها فيها إيذاء للمؤمن وللمؤمنة ، لكنه إيذاء مشروع لا يُعاقب مَنْ قام به ، كما في إيذاء الله ورسوله . لذلك يقول تعالى في اللذين يأتيان الفاحشة : { وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا … } [ النساء : 16 ] . والحق سبحانه حين شرع هذه الحدود وهذا الإيذاء ، إنما شرعه ليكون عقوبةً لمن يتعدَّى حدود الله ، وتطهيراً له من ذنبه ، ثم لتكون رادعاً للآخرين ، فسيدنا عمر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } [ الأحزاب : 58 ] بكى فقال له جليسه : ما يُبكيك يا أمير المؤمنين ؟ قال : لأنني آذيتُ المؤمنين والمؤمنات ، قال : يا أمير المؤمنين إنك تؤذي لتُعلِّم ولتُقوِّم والله تعالى أمرنا أن نرجم ، وأن نقطع ، فضحك عمر وسُرَّ . بل أكثر من هذا يأمرنا الحق سبحانه في الحدود : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ … } [ النور : 2 ] . لأن الرأفة في حدود الله رحمة حمقاء ، ولسنا أرحم بالخَلْق من الخالق سبحانه ، والله تعالى حين يُضخِّم العقوبة ويؤكد عليها ، إنما يريد ألاَّ نجترىء على حدوده ، وألاَّ نُعرِّض أنفسنا لهذه العقوبات ، ولك أنْ تسأل حين تقرأ قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ … } [ البقرة : 179 ] . كيف تكون الحياة في القتل ؟ نعم ، في القصاص حياة لأنك حين تعلم أنك إنْ قتلتَ تُقتَل ، فلن تُقدم أبداً على القتل ، وبذلك حَمَى الله القاتل والمقتول ، وهل يُعَدُّ هذا إيذاءً ؟ ومعنى { بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ … } [ الأحزاب : 58 ] أي : بغير جريمة تستحق الإيذاء ، وكلمة { ٱكْتَسَبُواْ … } [ الأحزاب : 58 ] قلنا : هناك فَرْق بين : فعل وافتعل ، فعل أي الفعل الطبيعي الذي ليس فيه مبالغة ولا تكلُّف ، أما افتعل ففِعْل فيه تكلُّف ومبالغة ، كذلك كسب واكتسب ، كسب : أنْ تأخذ في الشيء فوق ما أعطيتَ ، كما لو اشتريت بخمسة وبِعْتَ بسبعة مثلاً فهذا كسْب ، أما اكتسب ففيها زيادة وافتعال . لذلك تجد في العُرْف اللغوي العام أن كسب تأتي في الخير واكتسب تأتي في الشر ، مثل قوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ … } [ البقرة : 286 ] لها ما كسبتْ تفيد الملكية ، وعليها تفيد الدَّيْن . ذلك لأن الأمر الحلال يأتي طبيعياً تلقائياً ، أما الحرام فيحتاج إلى محاولة وافتعال واحتياط ، فحين تنظر مثلاً إلى زوجتك تكون طبيعياً لا تتكلف شيئاً ، أما حين تنظر إلى امرأة جميلة في الشارع ، فإنك تتلصص لذلك وتسرق النظرات ، خشية أن يطلع أحد على فِعْلتِك ، هذا هو الفرق بين الحلال والحرام . وفي آية واحدة في كتاب الله جاء الفعل كسب في الشر ، وذلك في قوله تعالى : { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ … } [ البقرة : 81 ] . فلماذا ؟ قالوا : لأن الآية فيمَنْ تعوَّد السيئات ، وأحاطت به الخطايا حتى أصبحت عادة ، وسَهُلَتْ عليه حتى صارت عنده كالحلال ، يفعله بلا تكلُّف ، بل ويجاهر به ويتباهى ، هذا هو المجَاهر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أمتي مُعَافَى إلا المجَاهرين " وفيه : " ستر الله عليه وأصبح يفضح نفسه " . وهذا الذي يُسَرُّ بالمعصية ويتباهى بها بلغ به الاحتراف أنه يستطيع أنْ يستر حركات انفعاله في الحرام ، كأنها الحلال بعينه لذلك جاء الفعل كسب هنا ، وكأن السيئة أصبحت مَلكةً . أذكر بمناسبة التكلُّف والافتعال في الحرام رجلاً من بلدتنا اسمه الشيخ مصطفى ، ذهب إلى السوق لشراء بقرة ، وأخذ النقود في جيبه ، ومن حرصه وضع يده على جيبه خوفاً من اللصوص ، فلما رأوه في السوق يمسك جيبه بيده عرفوا أنه ضالتهم ، فكيف احتالوا ليسرقوه ؟ لطخ أحدهم كتفه بروَث البهائم ، ثم احتكَّ بالشيخ مصطفى ، حتى اتسخت ملابسه فغضب ، وأخذ ينظف ملابسه من الروث ، ونسي مسألة النقود التي في جيبه فسرقوه . وكما يأتي الحرام بافتعال ، كذلك يكون العقاب فيه أيضاً افتعال ومبالغة تناسب افتعال الفعل لذلك يقول سبحانه في عقاب الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا : { فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ … } [ الأحزاب : 58 ] ولم يَقُلْ حملوا ، وفَرْق بين حمل واحتمل ، حمل تُقال لما في طاقتك حَمْله ، إنما احتمل يعني فوق الطاقة ، وإنْ حملْته تحمله بمشقة ، فالجزاء هنا من جنس العمل ، فكما تفاعلْتَ وتكلَّفْتَ في المعصية كذلك يكون الجزاء عليها . { فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 58 ] البهتان : أن تقول في غيرك ما ليس فيه ، فالبهتان كذب ، أمَّا الإثم : فأنْ ترتكب ذنباً في حقه بأن تؤذيه بصفة هي فيه بالفعل ، لكنه يكره أنْ تصفِه بها ، كما تقول للأعمى مثلاً : يا أعمى . لذلك ورد في الحديث لما سُئِل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبْتَهُ ، وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بَهته " أي : كذبْتَ وافتريْتَ عليه . ووصف الحق سبحانه الإثم هنا بأنه مبين { وَإِثْماً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 58 ] يعني : جَليٌّ واضح لأن الوضوح في الإثم إما أن يكون بأنْ تُقِر أنت به وتعترف بذنبك ، وإما أنْ يكون بالبينة ، فلو سألناك : أنت قلت لهذا الرجل يا أعمى ، أتحب أنْ تُوصَف أنت بصفة تكرهها ؟ لا بُدَّ أنْ تقول : لا أحب . إذن : فالإثم هنا واضح ، ويكفي إقرارك به . وينبغي أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك كما علَّمَنَا سيدنا رسول الله ، فكما أنه لا يُرضيك أنْ يسرق الناس منك ، كذلك أنت لا تسرق منهم ، وكما يُؤذيك الإثمُ كذلك يؤذيهم . ثم يأخذنا الحق سبحانه إلى أدب آخر من آداب الأسرة ، فيقول سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ … } .