Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 57-57)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الإيذاء : إيقاع الألم من المؤذِي للمؤذَى ، سواء أكان الإيذاء بالقول أم بالفعل ، والإيذاء بهذا المعنى أمر لا يتناسب مع الحق سبحانه وتعالى . إذن ما معنى : يؤذون الله ؟ قالوا : الله تعالى لا يُؤذَي بالفعل لأنهم لا يستطيعون ذلك ، فهو أمر غير ممكن ، أما القول فممكن ، والإيذاء هنا يكون بمعنى إغضاب الله تعالى بالقول الذي لا يليق به سبحانه ، كقولهم : { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ … } [ آل عمران : 181 ] وبعضهم أنكر وجود الله . وقولهم : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ … } [ المائدة : 64 ] . وقولهم : { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 30 ] . وبعضهم يسُبُّ الدهر ، والله يقول في الحديث القدسي : " يؤذيني عبدي ، وما كان له أنْ يؤذيني ، يسبُّ الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقلِّبُ الليل والنهار " . وهل الزمن له ذَنْب في الأحداث التي تؤلمك ؟ الزمن مجرد ظرف للحدث ، أما الفاعل فهو الله عز وجل ، إذن : لا تسبُّوا الدهر ، فالدهر هو الله ، وهم أنفسهم قالوا : { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } [ الجاثية : 24 ] . كل هذا إيذاء بالقول ، لكن ينبغي أنْ ننظر فيه : أهو كذب وبهتان ؟ أم قول صادق يقوم عليه دليل ؟ وقد يُؤذيك شخص بكلمة ، لكنك لا تُؤذَى منها ، وفي هذه الحالة يأخذ هو إثمها ، وتسْلَم أنت من شرها وتسلم من ألمها … فهذه الأقوال منهم في الواقع فيها إيذاء ، لكن ليس لله تعالى ، إنما إيذاء لهم ، كيف ؟ الحق - سبحانه وتعالى - حينما استخلف الإنسان في الأرض خلق له الكون قبل أنْ يخلقه فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله ، فيه مُقوِّمات بقاء الحياة ، ومُقوِّمات بقاء النوع ، ثم أعدَّ له أيضاً قانون صيانته ، بحيث إنْ أصابه عطب استطاع أنْ يصلحه ، هذا القانون هو منهجه سبحانه المحفوظ في كتابه ، واقرأ قول الحق سبحانه : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] . فقانون الصيانة في القرآن موجود قبل أنْ يخلق الإنسانَ لأن الإنسان خَلْق الله وصَنْعته خلقه الله في أحسن تقويم ، وعلى أحسن هيئة ، ويريد له أنْ يظل هكذا سويَّ التكوين في كل شيء ، فإذا ما خرج هذا الخليفة المخلوق لله على قانون صيانته ، فإنه ولا شكَّ لا بُدَّ أنْ يغضب الله ، لأن الله يريد أنْ تظلَّ صنعته جميلة ، كما أبدعها سبحانه . إذن : فالذين أنكروا وجود الله ، أو الذين أشركوا به ، والذين قالوا : " إن الله فقير ونحن أغنياء " أو قالوا : الملائكة بنات الله … إلخ هذه الأقوال التي ترتب عليها غضب الحق سبحانه لأنه خليفته في الأرض لم يُؤَدِّ المطلوب منه على حَسْب منهج الله . ونقول لهؤلاء : إياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم خرجتم من قبضة الحق سبحانه ، بل أنتم في قبضته ، وتحت مشيئته ، ولو شاء سبحانه لقهركم على طاعته ، أو خلقكم على هيئة الصلاح لا تأتي منكم المعصية كما خلق الملائكة ، إنما جعلكم مختارين فيما كلفكم به ، مَنْ شاء آمن ، ومَنْ شاء كفر ، ليعلم مَنْ يقبل عليه بحب لا بقهر . والدليل على ذلك أنكم مخلوقون ، على هيئتين . هيئة لكم فيها اختيار وهي التكاليف ، وهيئة مقبوضين في قبضة الحق سبحانه وهي القضاء ، فما دمتم تعودتم التمرد على التكاليف ، فلماذا لا تتمرَّدُون على أقدار الله فيكم ، كالمرض والموت مثلاً ؟ ومع ذلك ما دُمْتَ قد اخترْتَ الكفر وأنا رَب ، ومطلوب مني أنْ أعينك على ما تحب ، فسوف أختم على قلبك ، بحيث لا يدخله الإيمان ، ولا يخرج منه الكفر الذي تحبه . إذن : أنا جئت على مرادك مما يدل على أن كفرك بي لا يضرني ولا يؤذيني . وقد ورد في الحديث القدسي : يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني . وإنْ كانت لكم منطقة اختيار في الدنيا هي أمور التكاليف ، فسيأتي يوم القيامة ، ويمتنع الاختيار كله ، فلا اختيارَ لأحد في شيء يوم يقول الحق سبحانه { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ … } [ غافر : 16 ] فلا يجيب أحد ، لا مالك ولا مملوك ، فيجيب الحق سبحانه على ذاته : { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . هذا في معنى إيذاء الله تعالى ، أما الإيذاء في حقِّ سيدنا رسول الله ، فرسول الله بشر ، يمكن أنْ يصيبه الإيذاء بالفعل والإيذاء بالقول ، فكما قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء قالوا عن رسول الله : كاهن وساحر ومجنون وشاعر ، ثم تعدَّى الإيذاء إلى الفعل الذي أصاب رسول الله وآلمه بالفعل . ألم يُرْمَ بالحجارة حتى دَمِيتْ قدماه في الطائف ؟ ألم يضعوا على ظهره الشريف سَلاَ البعير في مكة - أي سَقَط البعير - ألم تكسَر رباعيته يوم أحد ويُشَجُّ ويسيل دمه صلى الله عليه وسلم ؟ فرسول الله ناله مع ربه - عز وجل - إيذاء بالقول ، ثم ناله إيذاء آخر بالفعل ، إيذاء بشري فيه إيلام ، وقمة الإيذاء بالفعل ما يتعرَّض لأمر محارمه وأزواجه صلى الله عليه وسلم . لذلك قال تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 53 ] أي : بمخالفة ما جاء به ، أو بأنْ تتهموه بما ليس فيه ، أو تتعرَّضوا له بإيلام حسي ، ثم لم يخص من ألوان الإيذاء إلا مسألة الأزواج ، فقال : { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً … } [ الأحزاب : 53 ] وذكر هذه المسألة بالذات صراحةً مراعاة لطبيعة النفس البشرية ، فقد قلنا : إن الرجل يمكن أن يتجمل على أصحابه أو أحبابه بأغلى ما يملك ، لكنه أبداً لا يقبل أن ينظر أحد إلى زوجته ، يحميها ويغَارُ عليها من مجرد النظر . لذلك فإن سيدنا حذيفة ، وكان يحب امرأته ، فقال لها : ألاَ تحبين أن تكوني معي في الجنة ؟ فقالت : بلى ، فقال لها : إذن إذا مِتُّ فلا تتزوجي بعدي - فهو يغار عليها حتى بعد موته - لأني سمعت رسول الله يقول : " المرأة لآخر أزواجها " . لكن هذا الحديث وُوجه بحديث آخر " لما سُئِل رسول الله : أيُّ نساء الرجل تكون معه في الجنة ؟ فقال : " أحسنهن خلُقاً معه " . وقد رأى البعض تعارضاً بين هذين الحديثين ، والواقع أنه ليس بينهما تعارض ، لأن الآخرية هنا لا يُراد بها آخرية الزمن ، إنما آخرية الانتقال ، كما لو تمتعتَ برحلة جميلة مع أحد الأصدقاء منذ عشرين سنة ، فلما ذكَّرته بها قال : كانت آخر متعة ، مع أنك تمتعت بعدها برحلات أخرى . فالمعنى : تكون لآخر أزواجها في المتعة ، وإن كان مُتقدِّماً بحُسْن الخلق ، إذن : فالمعنيان متفقان ، لا تعارضَ بينهما . ومسألة غَيْرة الرجل على المرأة لها جذور في تاريخنا وأدبنا العربي ، ومن ذلك قول الشاعر : @ أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حيَيتُ فإن أَمُتْ فوَا أسَفَى مَنْ ذَا يهيمُ بهَا بَعْدي @@ فهو مشغول بها حتى بعد أنْ يموت ، لكن يُؤْخذ عليه أنه شغل بمن يحل محله في هيامه بمحبوبته لذلك كان أبلغ منه قَوْل الآخر : @ أَهِيمُ بدَعْدٍ مَا حَييتُ فإن أَمُتْ فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لذِي خُلَّةٍ بَعْدي @@ إذن : فهذه الغيرة مراتب ودرجات . ويُحدِّثنا التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين - أظنه الهادي - كان يحب جارية اسمها غادر ، ولشدة حبه لها قالوا إنه تزوجها ، وفي خلوة من خلوات الهيام والعِشْق قال لها : عاهديني - لأن صحته لم تكُنْ على ما يرام - إذا أنا مِتُّ أن لا تتزوجي بعدي ، وفعلاً أعطتْه هذا العهد ، فلما مات الهادي لم تلبث أن نسيَتْ غادر عشقها للهادي ، ونسيتْ حُزْنها عليه - وهذا من رحمة الله بنا أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصائب ، فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر . بعدها تزوجت غادر من أخي الهادي ، وفي يوم من الأيام استيقظت فَزِعة صارخة ، حتى اجتمع عليها مَنْ في القصر ، وسألوها : ماذا بك ؟ قالت : جاءني الهادي في المنام ، وقال لي : @ خَالَفْتِ عَهْدِي بَعْدَمَا جَاوَرْتُ سُكَّانَ المقَابرْ ونكحْتِ غادرةً أخِي صَدَق الذِي سَمَّاكِ غَادِرْ لا يَهْنك الإلْفُ الجديدُ ولا عَدتْ عَنْك الدَّوائرْ وَلَحقتِ بي مُنْذُ الصَّباح وصِرْتِ حَيْثُ ذهَبْتُ صائِر @@ وما كادت تنتهي من قولها حتى لفظتْ أنفاسها الأخيرة ، وماتت لذلك ، فالحق سبحانه يراعي هذه الغرائز الإنسانية وهذه الطبيعة ، أَلا ترى أن عِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها كانت سَنةً كاملة ، كما في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ … } [ البقرة : 240 ] . ثم جُعلَتْ عِدَّة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام احتراماً لهذه الغريزة في المرأة . ثم يُبيّن الحق سبحانه الجزاء العادل لمن يؤذي الله ويؤذي رسول الله ، فيقول سبحانه : { لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ … } [ الأحزاب : 57 ] أي : طردهم من رحمته { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [ الأحزاب : 57 ] . ثم يعطينا الحق سبحانه إشارةً إلى أن هذا الجزاء العادل الذي أعدَّه لمن يؤذي الله ورسوله ليس تعصُّباً لله ، ولا تعصباً لرسول الله ، بدليل أن الذي يؤذي مؤمناً أو مؤمنة لا بُدَّ أن يُجازَي عن هذا الإيذاء ، فسوَّى المؤمن والمؤمنة في إرادة الإيذاء بإيذاء الله ، وبإيذاء رسول الله ، فقال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ … } .