Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 6-6)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فالمعنى : إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم فما بالكم بزيد ؟ إذن : لستُم أحنَّ على زيد من الله ، ولا من رسول الله ، وإذا كنتم تنظرون إلى الوسام الذي نُزِع من زيد حين صار زيد ابن حارثة بعد أنْ كان زيدَ بن محمد . فلماذا تُغمِضون أعينكم عن فضل أعظم ، ناله زيد من الله تعالى حين ذُكِر اسمه صراحة في قرآنه وكتابه العزيز الذي يُتْلَى ويُتعبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة ، فأيُّ وسام أعظم من هذا ؟ فقوله تعالى : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] قَوْل خالد يَخلُد معه ذِكْر زيد ، وهكذا عوَّض الله زيداً عما فاته من تغيير اسمه . وقوله تعالى : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ الأحزاب : 6 ] ما المراد بهذه الأولوية من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : هي ارتقاءات في مجال الإحسان إلى النفس ، ثم إلى الغير ، فالإنسان أولاً يُحسن إلى نفسه ، ثم إلى القرابة القريبة ، ثم القرابة البعيدة ، ثم على الأباعد لذلك يقول صلى الله عليه وسلم : " ابدأ بنفسك ، ثم بمَنْ تعول " . ويقولون : أوطان الناس تختلف باختلاف هِمَمها ، فرجل وطنه نفسه ، فيرى كل شيء لنفسه ، ولا يرى نفسه لأحد ، ورجل وطنه أبناؤه وأهله ، ورجل يتعدَّى الأصول إلى الفروع ، ورجل وطنه بلده أو قريته ، ورجل وطنه العالم كله والإنسانية كلها . فرسول الله صلى الله عليه وسلم تعدَّى خيره إلى الإنسانية كلها على وجه العموم ، والمؤمنين على وجه الخصوص لذلك " كان صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل من أمته وعليه دَيْن ، وليس عنده وفاء لا يُصلِّي عليه ويقول : " صَلُّوا على أخيكم " . والنظرة السطحية هنا تقول : وما ذنبه إنْ مات وعليه دَيْن ؟ ولماذا لم يُصَلِّ عليه الرسول ؟ قالوا : لم يمنع الرسولُ الصلاة عليه وقال : صَلُّوا على أخيكم لأنه قال في حديث آخر : " مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها - لم يَقُل أدّاها - أدى الله عنه " . أما وقد مات دون أنْ يؤدي ما عليه ، فغالب الظن أنه لم يكُنْ ينوي الأداء لذلك لا أصلي عليه ، فلما نزل قوله تعالى : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ الأحزاب : 6 ] صار رسول الله يتحمل الدَّيْن عمَّنْ يموت من المسلمين وهو مدين ، ويؤدي عنه رسول الله ، وهذا معنى { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ الأحزاب : 6 ] فالنبي أَوْلى بالمسلم من نفسه . ثم ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام عمر : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من : نفسه ، وماله ، والناس أجمعين " ولصدْق عمر - رضي الله عنه - مع نفسه قال : نعم يا رسول الله ، أنت احبُّ إليَّ من أهلي ومالي ، لكن نفسي . . فقال النبي صلى الله عليه السلام : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه " فلما رأى عمر أن المسألة عزيمة فَطِن إلى الجواب الصحيح ، فلا بُدَّ أن الله أنطق رسوله بحُبٍّ غير الحب الذي أعرفه ، إنه الحب العقلي ، فمحمد صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليه من نفسه ، والإنسان حين يحب الدواء المرَّ إنما يحبه بعقله لا بعاطفته ، وكما تحب الولد الذكي حتى ولو كان ابناً لعدوك ، أما ابنك فتحبه بعواطفك ، وتحب مَنْ يثني عليه حتى لو كان غبياً مُتخلِّفاً . ومشهورة عند العرب قصة الرجل الغني الذي رزقه الله بولد متخلف ، وكَبر الولد على هذه الحالة حتى صار رجلاً ، فكان الطالبون للعطاء يأتونه ، فيُثْنون عَلى هذا الولد ، ويمدحونه إرضاء لأبيه ، وطمعاً في عطائه ، مع أنهم يعلمون بلاهته وتخلُّفه ، إلى أن احتاج واحد منهم ، فنصحوه بالذهاب إلى هذا الغني ، وأخبروه بنقطة ضَعْفه في ولده . وفعلاً ذهب الرجل ليطلب المساعدة ، وجلس مع هذا الغني في البهو ، وفجأة نزل هذا الولد على السُّلم كأنه طفل يلعب لا تخفى عليه علامات البَلَه والتخلف ، فنظر الرجل إلى صاحب البيت ، وقال : أهذا ولدك الذي يدعو الناس له ؟ قال : نعم ، قال : أراحك الله منه ، والأرزاق على الله . وقوله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ … } [ الأحزاب : 6 ] أي : أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ، وعليه فخديجة رضي الله عنها أم لرسول الله بهذا المعنى لأنه أول المؤمنين لذلك كانت لا تعامله معاملة الزوجة ، إنما معاملة الأم الحانية . ألاَ تراها كيف كانت تحنُو عليه وتحتضنه أول ما تعرَّض لشدة الوحي ونزول الملَك عليه ؟ وكيف كانت تُطمئنه ؟ ولو كانت بنتاً صغيرة لاختلفَ الأمر ، ولاتهمتْه في عقله . إذن : رسول الله في هذه المرحلة كان في حاجة إلى أم رحيمة ، لا إلى زوجة شابة قليلة الخبرة . وزوجاته صلى الله عليه وسلم يُعْتبرن أمهات للمؤمنين به لأن الله تعالى قال مخاطباً المؤمنين : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً … } [ الأحزاب : 53 ] لماذا ؟ لأن الرجال الذين يختلفون على امرأة توجد بينهم دائماً ضغائن وأحقاد . فالرجل يُطلِّق زوجته ويكون كارهاً لها ، لكن حين يتزوجها آخر تحلو في عينه مرة أخرى ، فيكره مَنْ يتزوجها ، وهذه كلها أمور لا تنبغي مع شخص رسول الله ، ولا يصح لمن كانت زوجة لرسول الله أن تكون فراشاً لغيره أبداً لذلك جعلهن الله أمهات للمؤمنين جميعاً ، وهذه الحرمة لا تتعدى أمهات المؤمنين إلى بناتهن ، فمَنْ كانت لها بنت فلتتزوج بمَنْ تشاء . إذن : لا يجوز لإنسان مؤمن برسول الله ويُقدِّره قدره أنْ يخلفه على امرأته . لذلك كان تعدد الزوجات في الجاهلية ليس له حَدٌّ معين ، فكان للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء ، فلما جاء الإسلام أراد أنْ يحدد العدد في هذه المسألة ، فأمر أنْ يُمسك الرجل أربعاً منهن ، ثم يفارق الباقين ، بمعنى أنه لا يجمع من الزوجات أكثر من أربع . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمسك تسعاً من الزوجات ، وهذه المسألة أخذها المستشرقون مَأخذاً على رسول الله وعلى شرع الله ، كذلك مَنْ لَفّ لَفَّهم من المسلمين . ونقول لهؤلاء : أنتم أغبياء ، ومَنْ لفَّ لفكم غبي مثلكم لأن هذا الاستثناء لرسول الله جاء من قول الله تعالى له : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ … } [ الأحزاب : 52 ] . يعني : إنْ ماتت إحداهن لا تتزوج غيرها ، حتى لو مُتْنَ جميعاً لا يحل لك الزواج بغيرهن ، في حين أن غيره من أمته له أنْ يتزوج بدل إحدى زوجاته ، إنْ ماتت ، أو إنْ طلقها ، وله أنْ يُطلِّق منهن مَنْ يشاء ويتزوج مَنْ يشاء ، شريطة ألاَّ يجمع منهن أكثر من أربع ، فعلى مَنْ ضيَّق هذا الحكم ؟ على رسول الله ؟ أم على أمته ؟ إذن : لا تظلموا رسول الله . ثم ينبغي على هؤلاء أنْ يُفرِّقوا بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود ، فكَوْن رسول الله يكتفي بهؤلاء التسع لا يتعدَّّاهن إلى غيرهن ، فالاستثناء هنا في المعدود ، فلو انتهى هذا المعدود لا يحلّ له غيره ، ولو كان الاستثناء في العدد لجاز لكم ما تقولون . ومن ناحية أخرى : حين يمسك الرجل أربعاً ، ويفارق الباقين من زوجاته لهن أنْ يتزوجن بغيره ، لكن كيف بزوجاته صلى الله عليه وسلم إنْ طلق خمساً منهن ، وهُنَّ أمهات المؤمنين ، ولا يحل لأحد من أمته الزواج منهن ؟ إذن : الخير والصلاح في أنْ تبقى زوجات الرسول في عصمته . وما دام { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } [ الأحزاب : 6 ] كذلك يجب أن يكون المؤمنون أوْلى برسول الله من نفسه ، ليردُّوا له هذه التحية ، بحيث إذا أمرهم أطاعوه . ثم يقول تعالى : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } [ الأحزاب : 6 ] . كلمة { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ } مأخوذة من الرحم ، وهو مكان الجنين في بطن أمه ، والمراد الأقارب ، وجعلهم الله أوْلى ببعض لأن المسلمين الأوائل حينما هاجروا إلى المدينة تركوا في مكة أهلهم وأموالهم وديارهم ، ولم يشأ أنصار رسول الله أن يتركوهم بقلوب متجهة إلى الأزواج . فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها ، وهذا لوْن من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه ، إلا مسألة المرأة ، فما فعله هؤلاء الصحابة لون فريد من الإيثار . وحين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة اقتضت أنْ يرث المهاجر أخاه الأنصارى ، فلما أعزَّ الله الإسلام ، ووجد المهاجرون سبيلاً للعيش أراد الحق سبحانه أنْ تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي ، فلم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ يرث المهاجر أخاه الأنصاري . فقررت الآيات أن أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في مسألة الميراث ، فقال سبحانه : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ … } [ الأحزاب : 6 ] فقد استقرت أمور المهاجرين ، وعرف كل منهم طريقه ورتَّب أموره ، والأرحام في هذه الحالة أوْلَى بهذا الميراث . وقوله تعالى : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ … } [ الأحزاب : 6 ] تنبيه إلى أن الإنسان يجب عليه أنْ يحفظ بُضْعة اللقاء حتى من آدم عليه السلام لأنك حين تتأمل مسألة خَلْق الإنسان تجد أننا جميعاً من آدم ، لا من آدم وحواء . يُرْوى أن الحاجب دخل على معاوية ، فقال له : رجل بالباب يقول : إنه أخوك ، فقال معاوية : كيف لا تعرف إخوتي ، وأنت حاجبي ؟ قال : هكذا قال ، قال : أدخله ، فلما دخل الرجل سأله معاوية : أي إخوتي أنت ؟ قال : أخوك من آدم ، فقال معاوية : نعم ، رحم مقطوعة ، والله لأَكونَنَّ أول مَنْ يصلها . وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً … } [ الأحزاب : 6 ] الحق سبحانه يترك باب الإحسان إلى المهاجرين مفتوحاً ، فمَنْ حضر منهم قسمة فَليكُنْ له منها نصيب على سبيل التطوع ، كما جاء في قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [ النساء : 8 ] . وقوله سبحانه : { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } [ الأحزاب : 6 ] أي : في أم الكتاب اللوح المحفوظ ، أو الكتاب أي : القرآن . ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية عامة لموكب الرسل جميعاً : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ … } .