Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 5-5)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ … } [ الأحزاب : 5 ] يعني : قولوا : زيد بن حارثة ، لكن كيف يُنزع من زيد هذا التاج وهذا الشرف الذي منحه له سيدنا رسول الله ؟ نعم ، هذا صعب على زيد - رضي الله عنه - لكنه { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] لا عندكم أنتم . و { أَقْسَطُ … } [ الأحزاب : 5 ] أفعل تفضيل ، نقول هذا قِسْط وهذا أقسط ، مثل عدل وأعدل ، ومعنى ذلك أن الذي اختاره رسول الله من نسبة زيد إليه يُعَدُّ قِسْطاً وعدلاً بشرياً ، في أنه صلى الله عليه وسلم أحسَّ بالبنوة وصار أباً لمن اختاره وفضَّله على أبيه . لكن الحق سبحانه يريد لنا الأقسط ، والأقسط أنْ ندعو الأبناء لآبائهم { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ … } [ الأحزاب : 5 ] أي : نُعرِّفهم بأنهم إخواننا في الدين . ومعنى الموالي : الخدم والنصراء الذين كانوا يقولون لهم " العبيد " ، فالولد الذي لا نعرف له أباً هو أخ لك في الله تختار له اسماً عاماً ، فنقول مثلاً في زيد : زيد بن عبد الله ، وكلنا عبيد الله تعالى . والبنوة تثبت بأمرين : بالعقل وبالشرع ، فالرجل الذي يتزوج زواجاً شرعياً ، وينجب ولداً ، فهو ابنه كوناً وشرعاً ، فإذا زَنَت المرأة - والعياذ بالله - على فراش زوجها ، فالولد ابن الزوج شَرْعَاً لا كوناً لأن القاعدة الفقهية تقول : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَر . كذلك في حالة الزوجة التي تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها ، لكنها تنجب لستة أشهر ، فتقوم هنا شبهة أن يكون الولد للزوج الأول ، لذلك يُعَدُّ ابناً شَرْعاً لا كوناً لأنه وُلد على فراشه . فإن جاء الولد من الزنا - والعياذ بالله - في غير فراش الزوجية فهو ابنه كوناً لا شرعاً لذلك نقول عنه " ابن غير شرعي " . كما أن في قوله تعالى : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ … } [ الأحزاب : 5 ] تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلو قال تعالى : هو قسْط لكان عمل النبي إذن جَوْراً وظلماً ، لكن أقسط تعني : أن عمل النبي قِسْط وعَدْل . وقوله تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ … } [ الأحزاب : 5 ] يُخْرجنا من حرج كبير في هذه المسألة ، فكثيراً ما نسمع وما نقول لغير أبنائنا : يا بني على سبيل العطف والتودد ، ونقول لكبار السن : يا أبي فلان احتراماً لهم . فالحق سبحانه يحتاط لنا ويُعفينا من الحرج والإثم ، لأننا نقول هذه الكلمات لا نقصد الأُبوّة ولا البنوة الحقيقية ، إنما نقصد تعظيمَ الكبار وتوقيرهم ، والعطف والتحنُّن للصغار ، فليس عليكم إثْمٌ ولا ذَنْبٌ في هذه المسألة ، إنْ أخطأتم فيها ، والخطأ هو ألاَّ تذهب إلى الصواب ، لكن عن غير عَمْد . وإذا كان ربنا - تبارك وتعالى - قد رفع عنا الحرج ، وسمح لنا باللغو حتى في الحلف بذاته سبحانه ، فقال : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ } [ المائدة : 89 ] فكيف لا يُعفينا من الحرج في هذه المسألة ؟ ثم يقول سبحانه : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] سبق أنْ قُلْنا : أن الفعل إذا أُسْنِد إلى الحق سبحانه انحلَّ عنه الزمن ، فليس مع الله تعالى زمن ماض ، وحاضر ومستقبل ، وهو سبحانه خالق الزمن . لذلك نقول : { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الأحزاب : 5 ] يعني : كان ولا يزال غفوراً رحيماً لأن الاختلاف في زمن الحدث إنما ينشأ من صاحب الأغيار ، والحق سبحانه لا يطرأ عليه تغيير . لذلك نخاف نحن من صاحب الأغيار لأنه مُتقلِّب ، ويقول أهل المعرفة : تغيَّروا من أجل ربكم - يعني : من الانحراف إلى الاستقامة - لأن الله لا يتغير من أجلكم ، أنت تتغير من أجل الله ، لكن الله لا يتغير من أجل أحد ، وما دام الحق سبحانه كان غفوراً رحيماً ، وهو سبحانه لا يتغير ، فبالتالي سيبقى سبحانه غفوراً رحيماً . وتلحظ في أسلوب القرآن أنه يقرن دائماً بين هذين الوصفين غفور ورحيم لأن الغفر سَلْب عقوبة الذنب ، والرحمة مجيء إحسان جديد بعد الذنب الذي غُفِر ، كأن تُمسِك في بيتك لصاً يسرق ، فلك أنْ تذهب به للشرطة ، ولك أن تعفو عنه وتتركه ينصرف إلى حال سبيله ، وتستر عليه ، وبيدك أنْ تساعده بما تقدر عليه ليستعين به على الحياة ، وهذه رحمة به وإحسان إليه بعد المغفرة . وقد عُولجَتْ هذه المسألة في قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } [ النحل : 126 ] وهذا التوجيه يضع لنا أول أساس من أسس المغفرة لأنك لا تستطيع أبداً تقرير هذه المثلية ، ولا تضمن أبداً إذا عاقبتَ أنْ تعاقب بالمثل ، ولا تعتدي لذلك تلجأ إلى جانب المغفرة ، لكي لا تُدخِل نفسك في متاهة اعتداء جديد ، يُوجب القصاص منك . وسبق أنْ حكْينا قصة المرابي الذي اشترط على مدينه إذا لم يسدِّد ما عليه في الوقت المحدد أن يأخذ رطلاً من لحمه ، فلما تأخر اشتكاه المرابي عند القاضي ، وذكر ما كان بينهما من شروط ، فأقرَّه القاضي على شرطه ، لكن ألهمه الله أنْ يقول للمرابي : نعم خُذْ رطلاً من لحمه ، لكن بضربة واحدة ، فإنْ زِدْتَ عنها أو نقصْتَ وفَّيناها من لحمك أنت ، عندها تراجع المرابي ، وتنازل عن شَرْطه . إذن : أجاز لك الشرع القصاصَ بالمثل ليجعل هذه المرحلة صعبة التنفيذ ، ثم يفتح لك الحق سبحانه باب العفو والصفح في المرحلة الثانية : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التغابن : 14 ] . ثم يُفسرها بحيثية أخرى ، فيقول سبحانه : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . ومعنى كظم الغيظ أنني لم أنفعل انفعالاً غضبياً ينتج عنه ردّ فعل انتقامي ، وجعلتُ غضبي في قلبي ، وكظمتُه في نفسي ، وهذه المرحلة الأولى ، أما الثانية فتُخرِج ما في نفسك من غَيْظ وغضب وتتسامح وتعفو . ثم المرحلة الثالثة أنْ ترتقي إلى مرتبة الإحسان ، فتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك ، وهذه رحمة ، والرحمة أنْ يميل الإنسان بالإحسان لعاجز عنه ، فإنْ كان الأمر بعكس ذلك فلا تُسمَّى رحمة ، كأن يميلَ العبدُ بإحسان إلى سيده . هذه صور أتتْ فيها الرحمة بعد المغفرة ، وهذا هو الأصل في المسألة ، وقد تأتي الرحمة قبل المغفرة ، كأنْ تُمسك باللص الذي يسرق فتشعر أنه مُكْره على ذلك ، وليس عليه أمارات الإجرام ، فيرقّ له قلبك ، وتمتد يدك إليه بالمساعدة ، ثم تطلق سراحه ، وتعفو عنه ، فالرحمة هنا أولاً وتبعتها المغفرة . بعد ذلك لقائل أنْ يقول : ما موقف زيد بعد أنْ أبطل الله تعالى التبني ، فصار زيدَ بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد ؟ وكيف به بعد أنْ سُلِب هذه النعمة وحُرِم هذا الشرف ؟ أضِفْ إلى ذلك ما يلاقيه من عنتَ المرجفين ، وألسنة الذين يُوغرون صدره ، ويُوقِعون بينه وبين رسول الله ، وهو الذي اختاره على أبيه . لا شكَّ أن الجرعة الإيمانية التي تسلَّح بها زيد جعلتْه فوق هذا كله ، فقد تشرَّب قلبه حبّ رسول الله ، ووقر في نفسه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } [ الأحزاب : 36 ] . ثم تأتي الآيات لتوضح للناس : لستم أحنَّ على زيد من محمد ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أوْلى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم ، لا بزيد وحده . ثم يقول الحق سبحانه : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … } .