Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 72-72)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
العَرْض : إدارة معروض على معروض عليه ، كما نرى مثلاً في العرض العسكري ، حيث تمر نماذج من الجيوش والأسلحة أمام القائد ، ومنه قوله تعالى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] . ومنه قولك : عرضتُ على فلان الأمر يعني : أطلعتُه عليه ، ليرى فيه رأيه يقبل أو لا يقبل ، فالعرض تخيير لا إلزامَ فيهِ . فالحق سبحانه يقول : عرضت الأمانة على خَلْقي كلّ خَلْقي ، ومنه الإنسان والحيوان والجماد والنبات لأرى مَنْ منهم سيقبل تحمُّلها ، ومَنْ سيرفض ، إذن : معنى العَرْض أن هناك مَنْ سيقبل ، وهناك مَنْ سيرفض . لذلك قًلْنا : من الخطأ : أن نقول : إن الأرض والسماء والجبال … إلخ مُسَيَّرة مقهورة ، بل يجب أن نُعدِّل العبارة فنقول هي مقهورة باختيارها لأن الله حين عرض عليهن الأمانة أبينْ أن يحملنها وأشفقْنَ منها ، وقالت : نخرج من باب الجمال ، فاختارتْ ألاَّ تكون مختارة . ومعنى الأمانة في عُرْفنا هي المال ، أو الأشياء النفيسة التى تخشى عليها الضياع ، فتُودعها عند مَنْ تلتمس فيه أنه يحافظ عليها لحين حاجتك لها ، وليس لك أنْ تأخذ ممَّنْ ائتمنته صَكاً ، ولا أنْ تُحضر شهوداً ، وإلا ما أصبحت أمانة ، إذن : ليس عليها إثبات إلا أمانة مَنْ أخذها ، فإنْ شاء أقرَّ بها وأدَّاها ، وإنْ شاء أنكرها . فالأمانة إيعاد النفس بأن تكون مختارة في الفعل وغيره ، فإنْ كانت مقهورة بصَكٍّ ، أو بشهادة شهود لم تَعُدْ أمانة . والأمانة التي عرضها الحق سبحانه على خَلْقه هي أمانة الاختيار في أنْ يكون مختاراً في أنْ يؤمن أو يكفر ، في أنْ يطيع أو يعصي ، فكل ما عدا الإنسان رفض التحمُّل لأنه لم تأخذه الحمية وقت العَرْض والتحمُّل ، مخافة أنْ يأتي وقت الأداء ، فلا يجد له ذمة . وفَرْق بين وقت التحمُّل ووقت الأداء ، فمَنْ يلاحظ وقت التحمل فقط يُقدِم عليها ويقبلها ، لكن مَنْ يلاحظ مع التحمُّل الأداءَ يرفض ، فربما مع حُسْن النية والرغبة في الأداء تتغير الظروف ، أو تتغير الذمة ، أو يطرأ عليك ما يُحوجك لها ، فتمتد إليها يدك ، فيأتي وقت الأداء ، فلا تستطيع . كل أجناس الوجود ما عدا الإنسان أبَوْا ، أن يحملوا الأمانة واختاروا القهر والتسيير للخالق عز وجل لأن الإنسان كما وصفه ربه { كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . كذلك وصل عباد الله الصالحين إلى منزلة العبودية لله حين وجَّهوا اختيارهم حَسْب مراد ربِّهم ، فالله أعطاهم الاختيار في الإيمان أو الكفر فآمنوا ، وأعطاهم الاختيار في الطاعة وفي المعصية فأطاعوا ، فوجَّهوا اختيارهم إلى ما أحبَّ ربهم ، فصاروا من عباده المقربين . فكأنك إذن تنازلتَ عن اختيار نفسك في حرية الحركة ، فصِرْتَ كالسماوات والأرض والجبال حين تنازلن عن اختيارهن لاختيار ربها ووصلْتَ - مع أنك مختار - إلى أنْ لا تختار إلا ما وضعه الله لك منهجاً . هنا يحلو للبعض أنْ يقول : كيف عُرِضَتْ الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وهي جمادات ، وكيف لها أنْ تأبى ؟ … إلخ نقول : أنت أدخلتَ نفسك في متاهة ، وهل كان العرض منك أنت حتى لا تفهمك الجمادات ؟ أم كان العرض من ربها وخالقها ؟ ساعة ترى فِعْلاً يحدث منك ويحدث من الله ، إياك أنْ تعزل الحدث عن فاعله ، والله يقول : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] . فهو سبحانه خالقها ، وهو الذي يخاطبها ، ولم تنكر ذلك ، وقد علَّم الله بعض رسله مثلاً لغة الطير فعرفها وتفاهم معها ، كما قال سبحانه عن نبيه سليمان أنه قال : { عُلِّمْنَا مَنطِقَ ٱلطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ … } [ النمل : 16 ] . وقال : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا … } [ النمل : 19 ] . وقال عن تسبيح الجبال مع سيدنا داود عليه السلام { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ … } [ سبأ : 10 ] فالجبال ، نعم تُسبِّح في كل حال ، لكن الذي امتاز به سيدنا داود أنْ يوافق تسبيحُه تسبيحَ الملائكة ، وكأنهم جميعاً فرقة ينشدون نشيداً واحداً . إذن : الخالق سبحانه هو الذي يخاطب ما يشاء من خَلْقه ، ولو علَّمك أنْ تخاطب الجمادات لخاطبتها ، وتأمل مثلاً قصة الهدهد وسيدنا سليمان حين ذهب إلى أهل سبأ ، ووجدهم يعبدون الشمس من دون الله ، وكيف أنه كان على فقه تام بقضية التوحيد . فأَرِحْ نفسك وانْسِبْ الفعل إلى فاعله وأنت تستريح ، ولك في تصرفات حياتك أُسْوَةٌ ، فأنت مثلاً لو دخل عليك ولدك مُمزق الثياب ، يسيل منه الدم ، قبل أن تسأله عن شيء تسأله : مَنْ فعل بك هذا ؟ لا بُدَّ أن تحدد الفاعل أولاً ، فعليه ستبني حكمك وقرارك ، فإنْ كان الفاعل ابن الجيران مثلاً تقيم الدنيا ولا تُقعدها ، وإنْ قال لك : عمِّي فلان ضربني تهدأ أعصابك ، وتقول للولد : لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً استحق العقاب ، ولو ذهبتَ إلى عمه لعرفتَ فعلاً أن الولد ارتكب خطأ ، إذن : الفعل الواحد يمكن أنْ يكون سيئاً ، ويمكن أن يكون حسناً ، المهم مَن الفاعل ؟ وآياتُ القرآن يساند بعضها بعضاً ، وتسعفنا في هذه المسألة ، فالذي قال { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ … } [ الأحزاب : 72 ] قال { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ … } [ الإسراء : 44 ] . فكل شيء في الوجود كله مُسبِّح ، فدلَّ هذا على أن الموجودات لها دلالة عن ذاتها ، وتستطيع أن تبين عما في مرادها ، ونعجب من بعض العلماء حين يقول : هذه دلالة حال ، لا دلالة مقال ، وهذا القول يرده قوله تعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . ونحن نفهم تسبيح الدلالة ، ونراه في انسجام جزئيات الكون ونظامه البديع ، والحق يقرر أننا لن نفهم هذا التسبيح . إذن : هو تسبيح مَقال على الحقيقة لا يعرفه إلا مَنْ عرّفه الله . ولِمَ نستبعد تسبيح الكائنات ، ونحن نرى لبعض الطوائف والمهن شفرات وإشارات لا يفهمها غيرهم ، وفي اللغة الواحدة يمكن أن تسمع كلمات لا تعرف معناها ، فضلاً عن اختلاف اللغات بين الجنسيات المختلفة . فإذا كنتَ لا تعرف بعض المعاني في لغتك ، وإذا كنت لا تعرف لغات الآخرين وهم من بني جنسك ، فلماذا تنكر أنْ يكون للأجناس الأخرى في الوجود لغات يتعارفون عليها ، ويُعبِّرون بها ؟ ثم أكُلّ اللغات ووسائل الفهم منطوقة ؟ أليستْ هناك مثلاً لغة الإشارة ، يتعارف عليها البعض ، ويفهم بها ؟ ومع ذلك هناك قَدْر مشترك ومنطق في الدلالة يتفق عليه الجميع في كل اللغات ويتفاهمون به ، كما يتفاهم الخُرْس مثلاً ، كما أن هناك أشياءً تتفق فيها كل الطباع كالضحك والبكاء ، فليس هناك ضحك عربي ، ولا بكاء فرنسي مثلاً . ومعنى حَمْل الأمانة أي : القيام بها وتطبيقها ، كما جاء في قوله تعالى في معنى الحَمْل : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً … } [ الجمعة : 5 ] . فقد حملوها كمنهج وحفظوا ما فيها ، لكن لم يحملوها بمعنى : لم يُطبِّقوا هذا المنهج ، فصار مثَلهم عند الله كمثل الحمار الذي يحمل الكتب ، وهو لا يستفيد مما فيها ، وهذا في حَدِّ ذاته ليس ذمّاً للحمار ، وليس اتهاماً له بالغباء كما يدَّعي البعض ، فالحمار ليس شغله الفهم إنما الحَمل . فحسب ، فمَنْ حمل منهجاً دون أنْ يستفيد به فهو شبه الحمار في هذه المسألة ، وهذه خصوصية للحمار - أنه يحمل ما لا يفهم . والحمار في أمور أخرى يفهم ويؤدي مهمته على الوجه الذي ربما عجز عنه الإنسان ، فمن المعروف عن الحمار أنه إذا ذهب إلى مكان فإنه لا ينساه ولا يضل عنه ولو بعد فترة ، وربما يضلّ الإنسان طريقه الذي سار فيه منذ فترة ، أما الحمار فلو تركتَ له حرية الحركة لذهبَ بك إلى نفس المكان . إذن : مَنِ الغبي ؟ لذلك فالبعض يسأل : إذن لماذا يتهمون الحمار بالغباء ؟ قالوا : لأنهم كلَّفوه بما لم يُكلِّفه الله به ، فالحمار خُلِق للحمل ، وأنت تريده على درجة من الفهم ربما تفقدها في الإنسان العاقل . وسبق أن قُلْنا : إنك إذا أردتَ من الحمار أنْ يقفز فوق قناة مثلاً أوسع من إمكاناته ، فإنه لا يطاوعك أبداً فمهما ضربته لا يُقدِم على القفز ، فإنْ كانت في مقدوره نظر إليها وكأنه يُقدِّر اتساعها بالضبط ، ثم يقفز دون أنْ تجبره ، وهذا التصرف تصرف مَنْ يحسب العواقب جيداً ، ويفهم ما يفعل . إذن : الشيء لا ينفصل عن مهمته ، ولا يطلب منه فوق ما هُيِّىء له ، ومثَّلنا لذلك بعود الحديد ترى جماله في استقامته ، فإن أردته خُطَّافاً مثلاً فجماله وأداؤه لمهمته لا يتم إلا بِعوَجه ، وساعتها لا تستطيع أنْ تقول عنه إنه مُعْوج لأن هذا العوج هو عَيْن الاستقامة لمهمته . لذلك قلنا في قوله تعالى : { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [ لقمان : 19 ] ليس ذماً لصوت الحمار لأن صوت الحمار جعله الله عالياً هكذا لأنه يعيش في بادية ، وغالباً ما يستتر خلف مرتفع أو حجر أو شجرة أو يبتعد مسافة طويلة عن صاحبه ، فجاء صوته بهذه الهيئة ليدل عليه ويُرشد صاحبه إلى مكانه . إذن : فالصوت العالي يكون مُنكراً إذا لم يكُنْ له مهمة ، وإذا استُعمل في غير موضعه ، والشيء قد يكون مختلفاً ، لكن مهمته تكون متحدة . مثلاً ، الدم الذي به حياة الإنسان إذا تجلط داخل أوعيته يؤدي إلى شلل العضو ، ويحتاج إلى أدوية تعيد له سيولته ، وفي المقابل إذا زادت سيولة الدم أدى ذلك إلى نزيف ، وإذا حدث جُرْح مثلاً لا يندمل لأن الدم لا يتجلط ولا يسدّ أماكن خروجه ، إذن : تجلُّط الدم مطلوب خارج الأوعية ، وسيولة الدم مطلوبة داخل الأوعية . إذن : لكل منهما حكمة في مكانه . ومعنى : { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا … } [ الأحزاب : 72 ] أي : خِفْنَ وقت التحمل مخافة أنْ يأتي وقت الأداء فلا يؤدي { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ … } [ الأحزاب : 72 ] لما عنده من فكر واختيار ومحاولة ، لكن قد يأتي فكره بالضرر . وقلنا : إن الإنسان يأكل مثلاً حتى يشبع ، ثم يُعرض عليه الحلو والبارد ، فتمتلئ بطنه حتى التخمة وحتى المرض ، في حين أن الحمار أو الجاموسة مثلاً لا تأكل عوداً واحداً فوق الشِّبع لأنها محكومة بالغريزة التي لا تعرف التصرف في الأشياء ، وميزة الحيوان في هذه الغريزة وفي عدم تصرفه . لذلك وصف الإنسان هنا بأنه { كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] وهذه صيغة فَعُول الدالة على المبالغة في الظلم والمبالغة في الجهل . وقد يُعقل الظلم للغير لأن الظالم يظن أنه يستفيد منه ، أمّا أنْ يظلم المرءُ نفسه بأنْ يمنعها خيراً ، أو يجلب لها ضُرًّا ، فهذا ما لا يُعقل ودليل الغباء . فحين يتكاسل عن الطاعة لشهوة نفس موقوتة يمنعها خيراً باقياً ، ومتعة لا حدودَ لها ، فهو عدو لنفسه لذلك قال العلماء : إن نفس الإنسان هي أعدى أعدائه لأن العدو إنْ كان من خارجك تستطيع أنْ تراه ، وأنْ تحتاط له ، أمّا إنْ كان من داخلك فأمره شاقّ . وقد بيَّن الحق سبحانه أن أعظم الظلم الشرك بالله ، فقال سبحانه : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وهذا الظلم أيضاً لا يعود ضرره على الله تعالى ، إنما يعود على المشرك بالله لذلك وصف الإنسانَ بعد الظلم بأنه جهول لأنه يظلم نفسه ، وهذا يدل على الجهل وعدم العلم ، والجهول هو الذي يقع في الخطأ ويعدل عن الحق عن جهل ، فالوصف هنا يدل على الحكمة الأدائية { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ … } .