Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أراد الحق سبحانه أنْ يُدلِّل على قوله لرسوله في الآيات السابقة : { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } [ الأحزاب : 3 ] فجاء بحادثة جمعتْ كل فلول خصومه ، فقد سبق أن انتصر عليهم متفرقين ، فانتصر أولاً على كفار مكة في بدر ، وانتصر على اليهود في بني النضير وبني قينقاع ، وهذه المرة اجتمعوا جميعاً لحربه صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لن يؤثر جمعهم في الصدِّ عن دعوتك ، وسوف تُنصَر عليهم بجنود من عند الله . إذن : فحيثية وتوكل على الله هي قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 9 ] النعمة : الشيء الذي يخالط الإنسان بسعادة وبِشْر وطلب استدامته ، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في الإيمان لأن استدامة النعمة فيه تعدَّتْ زمن الدنيا إلى زمن آخر دائم وباقٍ في الآخرة ، وإنْ كانت نعمة الدنيا على قَدْر أسبابك وإمكاناتك ، فنعمة الآخرة على قَدْر المنعمِ سبحانه ، فهي إذن : نعمة النعم . والله تعالى يخاطب هنا المؤمنين ، ومعنى الإيمان هو اليقين بوجود إله واحد له كل صفات الجلال والكمال ، والله سبحانه يكفي العقل أنْ يهتدي إلى القوة الخالقة الواحدة التي لا تعاند ، لكن ليس من عمل العقل أنْ يعرف مثلاً اسم هذا الإله ، ولا أن يعرف مراده ، فكان ولا بُدَّ من البلاغ عن الله . وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بمَنْ يطرق علينا الباب ، فنتفق جميعاً بالعقل على أن طارقاً بالباب ، هذا هو عمل العقل ، لكن أمن عمل العقل أن نعرف مَنْ هو ؟ أو نعرف مقصده من المجيء ؟ وهذا ما نسميه التصور . فآفة العقل البشري أنه لم يقنع بالتعقل للقوة القاهرة الفاعلة ، فكان يكفيه أن يتعقل أن وراء هذا الكون قوةً ، هذه القوة لها صفات الكمال التي بها أوجدتْ هذا الكون ، فإنْ أردنا معرفة ما هي هذه القوة فلابُدَّ أنْ نترك هذا الطارق ليخبرنا عن نفسه ، ويفصح عن هدفه وسبب مجيئه ، ولا يتم ذلك إلا من خلال رسول يأتي من عند الله يخبرنا عن هذه القوة ، عن الله ، عن أسمائه وصفاته ومنهجه الذي ارتضاه لخَلْقه ، وما أعدَّه الله لمَنْ أطاعه من النعيم ، وما أعدَّه لمَنْ عصاه من العذاب . فإنْ كذَّبنا هذا الرسول ، وطلبنا دليلاً على صِدْقه في البلاغ أخرج لنا من المعجزات ما يؤيده وما يحملنا على تصديقه لأنه أتى بلونٍ مما ننبغ فيه نحن ، وفن من فنوننا ، ومع ذلك عجزنا عن الإتيان بمثله . إذن : فالتعقُّل أول مراحل الإيمان : لذلك فإن أبسط ردٍّ على مَنْ يعبدون غير الله أن نقول لهم : بماذا أمرتكم آلهتكم ؟ وعمَّ نهتْكم ؟ وماذا أعدَّتْ لمن أطاعها ؟ وماذا أعدَّت لمنْ عصاها ؟ ما المنهج الذي تستعبدكم به ؟ فكان من منطق العقل ساعةَ يأتينا رسول من عند الله أنْ نستشرف له ، ونُقبل عليه ، ونسأله عن اللغز الذي لا نعرفه من أمور الحياة والكون ، كان علينا أن نستمع له ، وأن ننصاع لأوامره لأنه ما جاء إلا ليُخرجنا من مأزق فكري ، ومن مأزق عقلي لا يستطيع أحد مِنَّا أنْ يُحلِّله ، كان على القوم أن يتلهفوا على هذا الرسول ، لا أن يعادوه ويعاندوه ، لما لهم من سلطة زمنية ظنوها باقية . وقوله تعالى : { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 9 ] ما هو الذكر ؟ العقل حين يتلقَّى المعلومات من الحواسِّ يقارن بينها ويُغربلها ، ثم يحتفظ بها في منطقة منه تمثل خزينة للمعلومات ، وما أشبه العقل في تلقي المعلومات بلقطة الفوتوغرافيا التي تلتقط الصورة من مرة واحدة ، والناس جميعاً سواء في تلقي المعلومات ، المهم أن تصادف المعلومة خُلوّ الذِّهْن مما يشغله . وهذه المنطقة في العقل يسمونها بؤرة الشعور ، وهي لا تلتقط إلا جزئية عقلية واحدة ، فإذا أردتَ استدعاء معلومة من الحافظة ، أو من حاشية الشعور ، فالذاكرة هي التي تستدعي لك هذه المعلومة ، وتُخرِجها من جديد من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور . ثم هناك ما يُسمَّى بتداعي المعاني ، حين يُذكِّرك شيء بشيء آخر ، وهناك المخيِّلة ، وهي التي تُلفِّق أو تُؤلِّف من المعلومات المختزنة شيئاً جديداً ، ونسميه التخيُّل ، فالشاعر العربي حين أعجبه الوشم باللون الأخضر على بشرة شابة بيضاء تخيَّلها هكذا . @ خَوْدٌ كأنَّ بَنَانَهَا فِي نَقْشِهِ الوَشْمِ المُزَرَّدْ سَمَكٌ مِنَ البللَّوْرِ فِي شَبَكٍ تكوَّنَ مِنْ زَبَرْجَدْ @@ فهذه صورة تخيُّلية خاصة بالشاعر ، وإلا فَمْن مِنَّا رأى سمكاً من البللور في شبك من زبرجد ؟ فللشاعر نظرته الخاصة للصور التي يراها ، وسبق أنْ ذكرنا الصورة التي رسمها الشاعر للأحدب ، فقال : @ قَصُرَتْ أَخَادِعُه وغَاصَ قَذَالُه فَكأنَّهُ مُتربِّصٌ أنْ يُصْفَعَا وكأنَّمَا صُفِعَتْ قفَاهُ مرةً فَأحسَّ ثانيةً لَهَا فَتَجمَّعا @@ ومنذ القِدَم يعتبر الشعراء القلبَ محلاً للحب وللمشاعر ، لكن يخرج علينا هذا الشاعر بصورة أخرى جديدة من نَسْج خياله ، فيقول : @ خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَودَّتيِ فَأُحِسُّ مِنْها فِي الفُؤادِ دَبيبا لاَ عُضْوَ لِي إلاَّ وَفيهِ صَبَابَةٌ فَكأنَّ أَعْضَائي خُلِقْنَ قُلُوبَا @@ فمعنى : { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ … } [ الأحزاب : 9 ] لا تمروا على النعم بغفلة لرتابتها عندكم ، بل تذكروها دائماً ، واجعلوها في بؤرة شعوركم لذلك جعل الله الذكر عبادة ، وهو عبادة بلا مشقة ، فأنت حين تصلي مثلاً تستغرق وقتاً ومجهوداً للوضوء وللذهاب للمسجد ، كذلك حين تزكي تُخرِج من مالك ، أما الذكْر فلا يُكلِّفك شيئاً . لذلك في سورة الجمعة حينما يستدعي الحق سبحانه عباده للصلاة ، يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ … } [ الجمعة : 9 ] فهنا حركتان : حركة إيجاب بالسعي إلى الصلاة ، وحركة سَلْب بترْكِ البيع والشراء ، وكلّ ما يشغلك عن الصلاة . ثم يقول تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً … } [ الجمعة : 10 ] . وفي موضع آخر قال : { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] فإياك أن تظن أن الله يريد أنْ تذكره ساعة الصلاة فحسب ، إنما اذكره دائماً وأبداً ، وإنْ كانت الصلاة لها ظرف تُؤدَّى فيه ، فذِكْر الله لا وقتَ له لذلك جعله الله يسيراً سهلاً ، لا مشقة فيه ، لا بالوقت ولا بالجهد ، فيكفي في ذِكْر الله أنْ تتأمل المرائي التي تمر بها ويقع عليها نظرك لترى فيها قَدرة الله . والحق سبحانه يُذكِّرنا بنعمه لأن النعمة بتواليها على النفس البشرية تتعوَّد عليها النفس ، ويحدث لها رتابة ، فلا تلتفت إليها ، فأنت مثلاً ترى الشمس كل صباح ، لكن قلَّما تتذكر أنها آية من آيات الخالق - عز وجل - ونعمة من نعمه لأنك تعوَّدت على رؤيتها ، وأصبحت رتيبة بالنسبة لك . كذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى نعمه حين يسلبها من الآخرين ، فحين ترى السقيم تذكَّر نعمة العافية ، وحين ترى الأعمى تذكَّر نعمة البصر … إلخ وساعتها ينبغي عليك أنْ تشكر المنعِم الذي عافاك مما ابتلى به غيرك ، إذن : فهذه الشواذ جعلها الله وسائل للإيضاح وتذكيراً للخلق بنِعَم الخالق . والنعمة وردتْ هنا مفردة ، وكذلك في قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] وقد وقف أعداء الإسلام من المستشرقين أمام هذه الآية يعترضون على أن النعمة فيها مفردة ، يقولون : فكيف تُعَدُّ ؟ وهذا الاعتراض منهم ناشئ عن عدم فَهْم لمعاني وأساليب القرآن . ونقول : الذي تروْنه نعمة واحدة ، لو تأملتُم فيها لوجدتم بداخلها نِعَماً متعددة تفوق العَدَّ لذلك استخدم القرآن هنا إنْ الدالة على الشك لأن نِعَم الله ليست مظنَّة العَدِّ والإحصاء كرمال الصحراء ، هل تعرَّض أحد لِعدِّها ؟ لأنك لا تقبل على عَدِّ شيء إلا إذا كان مظنَّةَ العَدِّ ، وإحصاء المعدود . لذلك ، فالحق سبحانه يوضح لنا : إنْ حاولتم إحصاء نِعَم الله - وهذا لن يحدث - فلن تستطيعوا عدَّها ، مع أن الإحصاء أصبح عِلْماً مستقلاً ، له جامعات وكليات تبحث فيه وتدرسه . ولك أنْ تأخذ نعمة واحدة من نِعَم الله عليك ، ثم تتأمل فيها وفي عناصرها ومُكوِّناتها وفوائدها وصفاتها ، وسوف تجد في طيَّات النعمة الواحدة نِعَماً شتَّى ، فالتفاحة مثلاً في ظاهرها نعمة واحدة ، لكن في ألوانها ومذاقها وعناصر مكوناتها ورائحتها واختلاف وتنوُّع هذا كله نِعَم كثيرة . والحق سبحانه جعل نِعَمه عامة للمؤمن وللكافر لأنه سبحانه جعل لها أسباباً ، مَنْ أحسَنَ هذه الأسباب أعطتْه ، حتى لو كان كافراً . ثم نلاحظ في قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] أنها وردتْ في القرآن مرتين ، ولكل منهما تذييل مختلف ، فمرَّة يقول تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] ، ومرة يقول : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] . وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لو عامل المنعَم عليهم من الخَلْق بما يقتضيه إيمانهم ، وما يقتضيه كفرهم ، لأعطى المؤمن وسلَبَ الكافر ، لكنه سبحانه غفور رحيم بخَلْقه ، فبهاتين الصفتين يُنعِم سبحانه على الجميع ، وما ترفلون فيه من نِعَم الله عليكم أثر من آثار الغفران والرحمة ، فغفر لكم معايبكم أولاً ، والغفر : أنْ تستر الشيء القبيح عَمَّن هو دونك . ثم الرحمة ، وهي أنْ تمتدَّ يدك بالإحسان إلى مَنْ دونك ، وسبق أنْ أوضحنا أن المغفرةَ تسبق الرحمةَ ، وهذه هي القاعدة العامة ، لكن قد تسبق الرحمةُ المغفرةَ ذلك لأن السَّلب للشيء المذموم ينبغي أن يسبق النعمة ، أو : أنْ دَفْع الضرر مُقدَّم على جَلْب المنفعة . وقد مثَّلْنا لذلك باللصِّ تجده في دارك ، فتستر عليه أولاً حين لا تسلمه للبوليس ، ثم يرقّ له قلبك ، فتمتد يدُك إليه بالإحسان ، وهنا تسبق المغفرةُ الرحمةَ ، وقد تتصرف معه بطريقة أخرى ، بحيث تقدَّم فيها الرحمةَ على المغفرة ، والمغفرة لا تكون إلا من الأعلى للأدنى ، فتستر على القبيح قُبْحه ، وأنت أعلى منه ، فلا يقال مثلاً للخادم : إنه ستر على سيده . ثم يرسل لنا الحق - سبحانه وتعالى - هذه البرقية الدالَّة على تأييده سبحانه لعباده المؤمنين : { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } [ الأحزاب : 9 ] . فالجنود تُؤذِن بالحرب ، وجاءت نكرة مُبْهمة ، ثم جاءت نهاية هذه المعركة في هاتين الجملتين القصيرتين { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا … } [ الأحزاب : 9 ] ولم يذكر ماهية هؤلاء الجنود ، إلا أنهم من عند الله ، جاءوا لردِّ هؤلاء الكفار وإبطال كيدهم . ثم يأتي بمذكرة تفسيرية توضح مَنْ هم هؤلاء الجنود : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ … } .