Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } [ سبأ : 1 ] جملة قائلُها الحق سبحانه ، فهل قالها لنفسه أم قالها ليُعلِّمنا نحن أنْ نقولها ؟ قالها ليُعلِّمنا . والحمد أنْ تأتي بثناء على مستحق الثناء بالصفات الجميلة . ومقابله : الذم ، وهو أنْ تأتي لمستحقِّ الذم بالصفات القبيحة ، وتنسبها إليه . وأنت قد تحمد شيئاً لا علاقةَ لك به ، لمجرد أنه أعجبك ما فيه من صفات ، فاستحق في نظرك أنْ يُحمد ، كأن تحمد الصانع على صَنْعة أتقنها مثلاً ، وإنْ لم تكُنْ لك علاقة بها . إذن : فالحمد مرة يكون لأن المحمود فيه صفات تستحق الحمد ، وإنْ لم تَصِلْ إليك ، فكيف إذا كانت صفات التحميد والتمجيد والتعظيم أثرها واصلَ إليك ؟ لا شكَّ أن الحمد هنا أوجب . لذلك نقول : كل حمد ولو توجَّه لبشر عائد في الحقيقة إلى الله تعالى لأنك حين تحمد إنساناً إنما تحمده على صفة وهبها الله له ، فالحمد على إطلاقه ولو لمخلوق حَمْدٌ لله . وكلمة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } [ سبأ : 1 ] وردت في القرآن ثمان وثلاثون مرة ، وخُصَّتْ منها في فواتح السور خمس مرات : في الفاتحة : والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر . والحق سبحانه بدأ بالحمد لأنه بدأ خَلْقه من عدم فله علينا نعمة الخَلْق من عدم ، ثم أمدَّنا بمقومات الحياة فوفَّر لنا الأقوات التي بها استبقاء الحياة ، ثم التناسل الذي به استبقاء النوع ، هذا لكيان الإنسان المادي ، لكن الإنسان مطلوب منه حركة الحياة ، وهو يعيش مع آخرين فلا بدَّ أنْ تتساند حركاتهم لا تتعاند ، لا بُدَّ أن تنسجم الحركات وإلا لتفانى الخَلْق . وهذا التساند لا يتأتَّى إلا بمنهج يُحدِّد الحركات ، ويحكم الأهواء ، وإلا لجاء واحد يبني ، وآخر يهدم . هذا في الدنيا ، أما في الحياة الآخرة فسوف يُعِدُّنا لها إعداداً آخر ، ويعيدنا إلى خير مما كنا فيه لأننا نعيش في الدنيا بالأسباب المخلوقة لله تعالى ، أما في الأخرة فنعيش مع المسبِّب سبحانه مع ذات الحق . نحن في الدنيا نزرع ونحصد ونطبخ ونخبز ونغزل … إلخ ، هذه أسباب لا بُدَّ من مزاولتها ، لكنك في الآخرة تعيش بكُنْ من المسبِّب ، في الدنيا تخاف أنْ يفوتك النعيم أو تفوته أنت ، أما في الآخرة فنعيمها بَاقٍ لا يزول ولا يحول ، في الدنيا تتمتع على قَدْر إمكاناتك ، أما في الآخرة فتتمتع على قَدْر إمكانات ربك . فالحق سبحانه أوجدنا من عدم ، وأمدنا من عُدْم ، ووضع لنا المنهج الذي يحفظ القيم ، ويُنظِّم حركة الحياة قبل أن تُوجد الحياة ، فقبل أنْ يخلقك خلق لك كالصانع الذي يُحدِّد مهمة صنعته قبل صناعتها ، وهل رأيتم صانعاً صنع شيئاً ، ثم قال : انظروا في أيِّ شيء يمكن أن يستخدم ؟ لذلك قال تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 1 - 4 ] فالمنهج المتمثل في القرآن وُضِع أولاً ليحدد لك مهمتك وقانون صيانتك ، قبل أن تُوجَد أيها الإنسان . والمتأمل لآيات الحمد في بدايات السور الخمس يجد أنها تتناول هذه المراحل كلها ، ففي أول الأنعام : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] . تكلَّم الحق سبحانه عن بَدْء الخَلْق ، ثم قال : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ … } [ الأنعام : 2 ] وهذا هو الإيجاد الأول . ثم في أول الكهف يذكر مسألة وَضْع المنهج والقيم : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] . هذا هو القانون الذي يحكم الأهواء ، ويُنظِّم حركة الحياة لتتساند ولا تتعاند . وفي أول سورة سبأ التي نحن بصددها يذكر الحمد في الآخرة : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ … } [ سبأ : 1 ] وحين تنظر إلى الحمد في الآخرة تجده حَمْداً مركباً مضاعفاً لأنك في الدنيا تحمد الله على خَلْق الأشياء التي تتفاعل بها لتعيش بالأسباب ، لكن في الآخرة لا توجد أسباب ، إنما المسبِّب هو الله سبحانه ، فالحمد في الآخرة أكبر حَمْداً يناسب عَيْشَك مع ذات ربك سبحانه . وفي أول فاطر : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ … } [ فاطر : 1 ] . نحمد الله على القيم ، وعلى المنهج الذي وضعه لنا الحق سبحانه بواسطة الملائكة ، والملائكة هم رسل الله إلى الخَلْق ، ومنهم الحفظة ، ومنهم المدبِّرات أمراً التي تدبر شئون الخَلْق ، ومنهم مَنْ أسجدهم الله لك . ثم جاءت أم الكتاب ، فجمعت هذا كله في : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] والربّ هو الخالق الممدّ { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 3 - 4 ] أي : في الآخرة ، ثم ذكرت وجوب السير على المنهج { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الفاتحة : 5 - 7 ] . ولأنها جمعتْ البداية والنهاية ، والدنيا والآخرة سُمِّيت فاتحةَ الكتاب ، وسُمِّيت المثاني ، وسُمِّيت أم القرآن . فقوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } [ سبأ : 1 ] علَّمنا الله تعالى أن نقولها لأن الناس مختلفون في المواهب ، وفي الملَكات ، وفي حُسْن الأداء ، وفي صياغة الثناء ، فلا يستوي في الحمد والثناء الأديب والأُميُّ الذي لا يجيد الكلام لذلك قال الله لنا : أريحوا أنفسكم من هذه المسألة ، وسوف أُعلمكم صيغة يستوي فيها الأديب الفيلسوف مع راعي الشاة ، وسوف تكون هذه الصيغة هي أحبّ صِيغ الحمد إليَّ ، هذه الصيغة هي { ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } [ سبأ : 1 ] . لذلك جاء في الحديث قول سيدنا رسول الله في حمد ربه ، والثناء عليه : " سبحانك لا نحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " فحين أقول خطبة طويلة في حمد الله والثناء عليه ، وتقول أنت : الحمد لله لا أقول لك قصَّرت في حمد ربك ، وكأن هذه الصيغة وتعليمها لنا نعمة أخرى تستحق الحمد لأنها سوَّتْ الجميع ، ولم تجعل لأحد فضلاً على أحد في مقام حمد الله والثناء عليه . وحين تحمد الله على أن علَّمك هذه الصيغة ، بماذا تحمده ؟ تحمده بأن تقول الحمد لله . إذن : هي سلسلة متوالية من الحمد لا تنتهي ، الحمد لله على الحمد لله ، ومعنى ذلك أنْ تظل دائماً حامداً لله ، وأنْ يظلَّ الله تعالى دائماً وأبداً محموداً . كما قُلْنا : إن اختلاف المواقيت في الأرض واختلاف المشارق والمغارب إنما جُعِلَتْ لتستمر عبادة الله لا تنقطع أبداً في كل جزئيات الزمن ، ففي كل لحظة صلاة ، وفي كل لحظة الله أكبر ، وفي كل لحظة أشهد ألا إله إلا الله ، وفي كل لحظة أشهد أن محمداً رسول الله … إلخ لتظل هذه الألفاظ وهذه العبادات دائرة طوال الوقت ، فالكون كله يلهج بذكْر الله وعبادة الله في منظومة بديعة ، المهم مَنْ يُحسِن استقبالها ، المهم صفاء جهاز الاستقبال عندك . وقوله سبحانه { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ … } [ سبأ : 1 ] بيَّنَّا أن الحمد في الآخرة أكبر وأعظم من الحمد في الدنيا لأنك في الدنيا تعيش بالأسباب ، أما في الآخرة فتعيش مع ذات المسبِّب سبحانه ، في الدنيا نعيم موقوت ، وفي الآخرة نعيم باقٍ ، في الدنيا فناء ، وفي الآخرة بقاء لذلك قال سبحانه عن الآخرة : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] . وقال سبحانه حكايةً عن المؤمنين في الآخرة : { وَقَـالُواْ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [ الزمر : 74 ] . وقالوا : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ … } [ الأعراف : 43 ] . فإنْ قُلْت : فما وجه الحمد في أن الله تعالى يملك السماوات والأرض ؟ نقول : فَرْق بين أنْ يخدمك في الكون مَا لا تملك ، وبين أنْ يخدمك ما تملك ، فالعظمة هنا أنك تنتفع هنا بما لا تملك ، فالسماوات والأرض مِلْك لله ، ومع ذلك هي في خدمتك أنت ، وليست العظمة من أنْ يخدمكَ ما تملكه . لذلك قالوا لأحد الناس : لماذا لا تشتري لك سيارة ؟ قال : والله الإخوان كثيرون ، وكلهم عندهم سيارات ، وكل يوم أركب سيارة واحد منهم ، ولا يغرمني هذا شيئاً . إذن : انتفاعك بما يملك الغير أعظمُ من انتفاعك بما تملك أنت ، وملْك الله جُعل لصالحنا نحن ، وهذه تستحق الحمد ، فاللهم لا تحرمنا نعمك . ملحظ آخر أن الحق سبحانه يريد أن يُطمئِنَ العبادَ ، فمُلْك السماوات والأرض لله وحده ، ولو كانت لغيره لمنعنا منها ، فكأن ربك يقول لك : اطمئن فهذا ملْكي وأنا ربك ولن أتخلى عنك أبداً ، وليس لي شريك ينازعني ، فيمنع عنك خيراتي ، فأنا المتفرِّد بالملْك والسلطان . لذلك ، فالحق سبحانه حين يقول للشيء : { كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] ما قال كُنْ إلا لأنه سبحانه يعلم أنه لا يستطيع ألاَّ يكون ، والدليل قوله تعالى عن الأرض { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي : أصغتْ السمع ، وحَقَّ لها ذلك ، فما قال سبحانه لشيء كُنْ إلا وهو واثق أنه لا يخرج عن أمره . لذلك سبق أن قُلْنا : إن الحق سبحانه حين طلب منا أنْ نشهد أنه لا إله إلا هو شهد بها لنفسه أولاً ، فقال : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] وهذه شهادة الذات للذات ، ولذلك تصرَّف سبحانه في الملك تصرُّف مَنْ لا شريكَ له ، فلم يقُل شيئاً أو يحكم حكماً ، ثم خاف أن ينقضه أحد أو يعدله . ثم شهدتْ بذلك الملائكة ، ثم شهد بذلك أولو العلم من عباده { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ … } [ آل عمران : 18 ] . فشهادة الله شهادة الذات للذات ، وشهادة الملائكة شهادة المشهد ، وشهادة أُولي العلم شهادة العلم والدليل . ونلحظ أيضاً أن الحق سبحانه قال : { ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 1 ] فكرَّر الاسم الموصول ما ولم يقُلْ له ما في السماوات والأرض ، كما جاء في قوله سبحانه في التسبيح : مرة : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ الجمعة : 1 ] . ومرة : { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحشر : 24 ] . وفَرْق بين التعبيرين لأن هناك خَلْقاً مشتركاً بين السماء والأرض ، وهناك خَلْق خاص بالسماء ، وخَلْق آخر خاص بالأرض ، فإنْ أراد الكل قال : { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحشر : 24 ] ، وإنْ أراد الاختلاف كلاً في جهته ، قال { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 1 ] . والسماوات والأرض ظرف لما فيهما من خيرات ، والذي يملك الظرف والمكان يملك المظروف فيه ، فالحيز هنا مشغول . ثم يقول سبحانه تذييلاً لهذه الآية { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [ سبأ : 1 ] الحكيم : هو الذي يضع الشيء في مكانه وموضعه المناسب ، ولا يتأتّى هذا إلا لخبير يعلم الشيء ، ويعلم موضعه الذي يناسبه لذلك قال سبحانه { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [ سبأ : 1 ] الذي لديه خِبْرة بدقائق الأشياء وبواطنها . ثم أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً لهذه الحكمة ولهذه الخبرة ، فقال سبحانه : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا … } .