Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 2-2)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { يَلِجُ … } [ سبأ : 2 ] يدخل ، ومنه قوله تعالى : { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ … } [ فاطر : 13 ] يعني : يُدخِل كلاً منهما في الآخر ، فزيادة الليل تنقص من النهار ، وزيادة النهار تنقص من الليل لذلك نرى اختلاف المواقيت . لكن ، ما الذي يدخل في الأرض - في حدود ما تراه أنظارنا - ؟ هناك أشياء تدخل في الأرض لا دَخْلَ لنا بها كماء المطر مثلاً حين ينزل من السماء ، نأخذ منه حاجاتنا ، ويتسرَّب منه جزء في باطن الأرض ، كما قال تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ الزمر : 21 ] . ويدخل في الأرض الحبة التي نزرعها ، فينشأ عنها الاقتيات الذي يضمن لنا بقاء الحياة ، وهذه الاقتيات يأتي من مضاعفة الحبة إلى أضعاف كثيرة ، كذلك يدخل في الأرض الميِّت الذي نستودعه الأرضَ بعد أنْ يموت ، ولك أنْ تلحظ وجه الشبه بين الحبة تزرعها ، والميت تدفنه في ضوء قوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] . فكما أن الحبة أنبتتْ سبع سنابل ، في كل سنبلة مائة حبة ، كذلك يجب أن نقيس المتواليات الذهنية فنقول كذلك حين أدخل أو أدفن في الأرض بعد الموت : أخرج بحياة أخرى أكثر نماءً من حياتي في الدنيا ، وأكثر خَيْراً فضلاً عما سترَتْه الأرض من سَوْءاتي . وقوله سبحانه : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ … } [ سبأ : 2 ] ما الذي ينزل من السماء ؟ ينزل منها المطر لاستبقاء الحياة ، وبالماء حياة كل شيء حي ، هذا في مادة تكوينك ، أما في حياتك الروحية فتنزل الملائكة بالقيم وبالمنهج الذي به تحيا الأرواح والقلوب ، وتنزل الملائكة المدبِّرات أمراً ، التي تدبر شئون الخلائق ، والتي قال الله فيها : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ … } [ الرعد : 11 ] . والبعض لا يفهم معنى الآية ، فيقول : كيف تحفظه الملائكة من أمر الله ؟ يريدون أن أمر الله ينبغي أنْ يُنفذ ، فكيف يحفظونه منه ؟ والمعنى : يحفظونه حِفْظاً صادراً من أمر الله ، ليس تطوُّعاً من عندهم . والحق سبحانه يُرينا قدرته في إنزال المطر حينما نُجري عملية تقطير الماء في المعامل والأجزاخانات ، انظر كم يتكلف كوب الماء المقطر ، وكم يأخذ من الوقت والجهد ، أما المطر فتُقطِّره لك قدرة الله دون أنْ تشعر أنت به ، فحرارة الشمس تُبخِّر الماء الذي يُكوِّن السحب ، ثم تسوقه الرياح إلى حيث شاء الله له أنْ ينزل ، ومن حكمته تعالى أنْ جعل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ماءً لتتسع مساحة البخر ، فيكفي المطر حاجة الأحياء . ومثّلنا لهذه الظاهرة بكوب الماء الذي تتركه لمدة شهر ، فلا ينقص إلا عدة سنتيمترات ، أما إنْ سكبْتَه في أرض الحجرة فإنه يجفّ قبل أن تغادرها ، لماذا ؟ لأنك وسَّعْتَ المساحة التي يتبخر منها الماء . وماء المطر هو الماء العَذْب الزلال الذي يشرب منه الإنسان والحيوان والطير ، ونسقي منه الزرع ومشارف الأرض ، وما تبقَّى يسلكه الله في جوف الأرض لحين الحاجة إليه ، فالمطر آية من آيات الله الدالة على قدرته تعالى . ثم يقول سبحانه : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا … } [ سبأ : 2 ] أى : يصعد ، وقد أشار القرآن إلى هذه المسألة في قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ … } [ فاطر : 10 ] أى : تصعد آثار التكليف المنهجي من الله تعالى . لكن نلحظ في أسلوب { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا … } [ سبأ : 2 ] استخدام حرف الجر في ولم يَقُلْ يعرج إليها ، نعلم أن الحرف يدل على معنًى في ذاته ، لكن هذا المعنى لا بُدَّ له من ضميمة شيء إليه ، ليعطي معنى يفهم ، فالحرف في يدل على الظرفية ، كما تقول : ماء في الكوب ، أمَّا لو قلت في مستقلة بذاتها ، فإنها لا تدلُّ على شيء . والعلماء حينما استقبلوا كثيراً من الأساليب وجدوا بها حروفاً ظَنُّوا أنها زائدة ، أو أنها بمعنى حرف آخر ، كما قالوا في معنى : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ سبأ : 2 ] أن في هنا بمعنى إلى ، لكن لماذا عدل الأسلوب عن إلى إلى في ؟ إذن : لا بُدَّ أنها تحمل معنى الظرفية . وللتوضيح نذكر ما قُلْنا في قوله تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [ طه : 71 ] البعض قال أي : على جذوع النخل ، وهذا فَهْم غير دقيق عن الله لأن في هنا تعطيني المعنيين : معنى على ومعنى في . فالتصليب صَلْب شيء على شيء ، وهذا المعنى تؤديه على ، لكن فيه قصور ، فإنْ أردتَ على فحسب ، فينبغي أنْ تقول : لأصلبنكم على جذوع النخل تصليباً قوياً ، بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب عليه . إذن : المعنى الكامل للتصليب لا تؤديه إلا في . خُذْ مثلاً عود كبريت وضَعْه على يدك ، أو على أصبعك ، والفُفْ عليه خيطاً خفيفاً ، في هذه الحالة الخيط فقط يثبت العود ، أما إذا شددْتَ عليه الخيط بقوة ، فإن العود يدخل في الجلد حتى يكاد يختفي بداخله ، هذا هو التصليب المراد أنْ تشدَّ المصلوب على المصلوب عليه بقوة بالمسامير أو الحبال أو نحوه . لذلك قال سبحانه : { فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ … } [ طه : 71 ] ولم يقُلْ على جذوع النخل لأن في أدَّتْ معنى الاستعلاء والظرفية معاً . كذلك في { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا … } [ سبأ : 2 ] ولم يقًلْ : وما يعرج إليها لأن إلى لا تؤدي المعنى المطلوب ، فـ إلى تدل على الغاية ، كما تقول : سافرت من القاهرة إلى الإسكندرية . والسماء ليست هي غاية صعود الكَلِم الطيب ، إنما غايته ومنتهاه إلى الله عز وجل ، وما السماء إلا طريق يُوصل إلى المنتهى الأعلى ، وسبق أنْ قُلْنا : إن السماء هي كل مَا علاك . وهذا المعنى لحرف الجر واضح كذلك في قوله تعالى : { وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ … } [ آل عمران : 133 ] فاستخدم إلى لأن المغفرة هي غاية ما يَسْعى إليه المؤمن ويسارع . وقال : { أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ … } [ المؤمنون : 61 ] . ولم يقل : إلى الخيرات لأن الخيرات ليست هي الغاية ، إنما هي مراتب يترقَّى فيها المؤمن ويتعالى ، كلما وصل إلى خير تطلَّع إلى أَخْيَر منه ، فكأن الخيرات ظرف يسير فيه لا إليه . كذلك لما تكلَّم الحق سبحانه عن الذين كذَّبوا الرسل ، قال : { فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ … } [ إبراهيم : 9 ] . البعض يقول : أي : إلى أفواههم ، لا لأن في تحمل معنى المبالغة في رَدِّ المنهج الذي جاء به الرسل ، فالمعنى أن الرسل حينما جاءوا بالمنهج لم يقبله المكذِّبون وقالوا لهم : وفروا عليكم كلامكم ، يعنى : لن يُجدي معنا شيئاً ، وجعلوا أيديهم داخل الأفواه ، وعَضُّوا عليها من الغيظ مما سمعوا من الرسل ، وهذا المعنى لا تؤديه لفظة : إلى أفواههم . ثم هو سبحانه : { وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ٱلْغَفُورُ } [ سبأ : 2 ] صفة الرحيم أي : الذي يمنع وقوع الضُّرِّ بِدايةً ، كما قال سبحانه : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ الإسراء : 82 ] . كلمة { شِفَآءٌ … } [ الإسراء : 82 ] تعني : أنه أصابك مرض نشأ من الغفلة ، فجاء القرآن ليُذكِّرك ويُنبِّهك ويشفي نفسك من هذه الغفلة ، فإنْ لم توجد الغفلة كان القرآن رحمة تمنع حدوث الداء من البداية . و رحيم صيغة مبالغة من الرحمة . كذلك { ٱلْغَفُورُ } [ سبأ : 2 ] صيغة مبالغة من المغفرة ، والحق سبحانه كثيراً ما يؤكد على هذه الصفة لأنه سبحانه خلق الإنسان ، ويعلم أنه لن يسير دائماً على الصراط المستقيم ، ولا بُدَّ أن ينحرف يوماً ما عن المنهج القويم لذلك قال { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ … } [ المائدة : 15 ] . وقلنا : إنه لولا صفة الرحمة والتوبة والمغفرة لتمادى المذنب في الذنوب ، ويئس أنْ يعود إلى الطريق المستقيم ، وهذا الذي أسميناه فاقد وبه يشقى المجتمع كله ، لكن إنْ عرف أن له رباً يغفر الذنب ويقبل التوبة ، فإنه يُقبل عليها ويتوب ولم لا ، وقد تكفَّل الله له بمغفرة ذنوبه إنْ تاب وأناب ؟ إذن : شرع اللهُ التوبةَ ليرحم الخَلْقَ ليرحم الخَلْق كلهم ، ويُقدِّم لهم جميلاً ، فحين يتوب على المذنب يرحم المجتمع مِن شرِّه ، ويرحمه هو من آثار ذنوبه لذلك يقول تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ … } [ التوبة : 118 ] أى : شرع لهم التوبة ليفتح لهم مجال التراجع وطريق العودة إلى الله ، حتى لا يكون هناك شراسة وتَمَادٍ في الشر ، ولا ينقلب المذنب إلى طاغوت . وحين نتأمل قوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا … } [ إبراهيم : 34 ] نجد صَدْر الآية ورد بنفس اللفظ في موضعين ، لكن العَجُز مختلف ، ففي آية : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] وفي الأخرى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] . عندما وقف بعضهم عند هذه الآية اعترضوا ، فقالوا : كيف تُعَدُّ النعمة ، وهي واحدة ؟ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا … } [ إبراهيم : 34 ] والرد : أن النعمة التي تراها واحدة في ظاهرها في طَيِّها نِعَم شتى ، وقد وَضُح لنا هذا بعد أنْ تقدَّمت العلوم وظهر علم عناصر الأشياء ، فالتفاحة مثلاً تراها في ظاهرها نعمة واحدة ، لكن علم العناصر يُبيِّن لنا أن بها نعَماً شتى ، وعناصر وفوائد مختلفة ، فهي نعمة في طيِّها نِعَم . والنعمة تقتضي : نعمة ، ومُنْعِماً ، ومُنْعَماً عليه ، فالنعمة في ذاتها من الكثرة بحيث لا تُعَدُّ ولاَ تُحصى لذلك استخدم كلمة إنْ الدالة على الشك ، ولم يقل مثلاً : إذا عددتم نعمة الله لأن هذا مجال لا يطمع فيه أحد ، ونِعَم الله ليست مظنة الإحصاء . لذلك لم يُقْدِم أحد على محاولة عَدِّ نِعَم الله حتى بعد أنْ وُجدت جامعات وكليات متخصصة في الإحصاء ، حاولت إحصاء كل شيء إلا هذه المسألة ، لأن الإقبال على العَدِّ والإحصاء يعني إمكانية الوصول إلى إحصاء المعدود . أما من حيث المنْعَم عليه وهو الإنسان ، فهو ظَلُوم كفار ، ظلوم لنفسه ولغيره ، كفَّار بالنعمة ، ولو آخذناه بذلك لحرمناه هذه النعمة ، والذي حماه من هذا الحرمان أن المُنعِم عليه غفور ورحيم ، وهذا إذا نظرنا إلى المنعمِ سبحانه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ … } .