Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما أغوى إبليس بني آدم هل لهم عذر في هذا الإغواء ؟ وهل الذنب هنا ذنب إبليس ؟ الحق سبحانه يخبر عنه وعنهم هذا الخبر في سياق قصة سبأ : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ … } [ سبأ : 21 ] ، وقد التقط إبليس هذه العبارة وجعلها حُجَّة له يوم القيامة ، فإذا قال له البشر يوم القيامة : أنت سبب ضلالنا وغوايتنا قال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } [ إبراهيم : 22 ] . يعني : لا تلوموني ولا تظلموني ، فقد كنتم على تشويره مني ، وليس لي عليكم من سلطان : لا سلطان قوة أقهركم بها وأجبركم على طاعتي ، ولا سلطان حجة أقنعكم به ، والفرق بين سلطان القهر وسلطان الحجة أنك تفعل مع الأول وأنت غير راض فأنت مُكْره ، أمّا مع سلطان الحجة والمنطق فإنك تفعل ما يُطلَب منك عن رضا واقتناع . وربنا عز وجل حذرنا من إبليس ووسوسته ونزغه ، وعلمنا أننا لن نقهره إلا بالله خصوصاً بهذه الروشتة التي قال الله فيها : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ … } [ فصلت : 36 ] . مجرد أنْ تُذكِّره بالله يخنس ويهرب ويتراجع ، فهو يقدر عليك وحدك ، فإنْ لجأتَ إلى ربك خاف وفَرَّ لأنه لا قدرةَ له ، ولا كيد مع ذكر الله ، لذلك قال بعض العارفين : قل هذه الكلمة بقوة وكأنك تراه وتصرعه . فماذا نفعل إنْ جاء لأحدنا وهو يقرأ القرآن ؟ قالوا : يقطع قراءته ، ويقول بصوت أعلى وبأسلوب مغاير لقراءته : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وقد حاولنا أن نُقرِّب هذا المعنى لأذهان الناشئة فقلنا : لو أن أحد الأغنياء مثلاً يجلس في الشرفة ليلاً ، فرأى لصاً يحاول دخول بيته ، فقام من مكانه ، وقال إحم ماذا يصنع اللص ؟ يهرب ، فإنْ قال في نفسه لعلها مصادفة ، ثم عاد في الليلة التي بعدها ، فتنبَّه له صاحب البيت ، وقال إحم عندها يفرّ بلا عودة ، فصاحب البيت متنبه غير غافل . كذلك ، قَوْل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يُفزع الشيطان ويطرده ، فإنْ عاد إليك مرة ومرة فقُلْ كلما شعرت بوسوسته ونزغاته : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، عندها سيعلم أنك فقسته ، وأنه لا مدخل له إليك . وقد عرف الشيطان حين جادل ربه من أين يدخل على ابن آدم ، فقال : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] فهو كما ذكرنا ، لا يقعد في خمارة مثلاً ، إنما يقعد في المسجد ، فهو يعلم أنك في عبادة ، وكُل مُناه أنْ يُفسِد عليك عبادتك ، أَلاَ تراه يُذكّرك في الصلاة ما نسيتَ من مهمات الحياة ، وعلى المؤمن أنْ يقدِّر موقفه بين يدي الله ، وألاّ ينشغل بأي شيء وهو في حضرة ربه . فالصلاة هي الصراط المستقيم الذي سيقعد لك الشيطانُ عليه لذلك علَّمنا فقهاؤنا - رحمهم الله ورضي الله عنهم - أنْ نغيظ الشيطان ، فإذا وسوس لك في الصلاة بحيث لا تدري ، أصليتَ ركعتين أم ثلاثاً ، فاعتبرها ركعتين وابْنِ على الأقل ، كذلك في الوضوء وأمثاله من العبادات ، لتغيظه وتُيئسه منك . وظاهرة السهو في الصلاة في الحقيقة ظاهرة صحية فهي الإيمان ، فلا تُمرِض نفسك بها ، وكُنْ قويَّ الإيمان وتشجِّع على هذا العدو ، وقُلْ له : لن أعطيك الفرصة لتفسد عليَّ لقائي مع ربي ، قل هذا واشخط شخطة إيمان فإنك تحرقه ، وإن عاد فَعُدْ ، واعلم أن كيد الشيطان كان ضعيفاً { إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَٰنِ كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] . فلا قدرة له عليك ما دُمْت في معية الله ، وما دُمْت ذاكراً لله ، عندك تنبُّه إيماني ، وتنبُّه عقدي . وسبق أنْ حكينا قصة الإمام أبي حنيفة لما جاءه رجل يستفتيه ويقول : يا إمام ، لقد كنتُ أخفيتُ مالاً في مكان في الصحراء ، وعلَّمته بحجر ، فجاء السيل فطمسه حتى ضللتُ مكانه ، فضحك الإمام وقال للرجل بما لديه من خبرة وتمرُّس ومَلَكة في الفتيا : يا بنى ليس في هذا علم ، لكني سأحتال لك ، اذهب بعد أنْ تصلي العشاء ، فتوضأ وضوءاً جديداً بنية أنْ يهديك الله إلى ضالتك وصَلِّ لله ركعتين ، ثم أخبرني ماذا حدث . فعل الرجل ما أوصاه به الإمام ، فجاءه إبليس ليفسد عليه صلاته وقال له : إن المال في مكان كذا وكذا ، فراح فوجد المال ، ثم عاد إلى الإمام فأخبره فقال : والله لقد علمتُ أن الشيطان لا يدعك تُتِم ليلتك مع ربك . إذن : فَثِق بكلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقُلْها بقوة إيمان ، أيقول الله قَوْلة يأتي واقع الحياة من المؤمن به ليكذبها ؟ وجَرِّبها أنت بنفسك . وقوله تعالى : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ … } [ سبأ : 21 ] ما دام أنه ليس لإبليس سلطان على بني آدم ، وما دام أنهم على تشويرة منه ، فلا بُدَّ أنَّ إيمانهم غير راسخ ، وأنهم نَسُوا حكماً من أحكام الله لأنه سبحانه حذرهم منه ووصف لهم طريقة التغلب عليه فلم يفعلوا . فكانت غواية إبليس لهم { لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ … } [ سبأ : 21 ] أي : عِلْم وقوع ، وإلا فالحق سبحانه يعلم ما سيكون منهم أزلاً ، لكن لا بُدَّ أنْ يحدث منهم الفعل لتقوم الحجة عليهم كالمعلم الذى يرى على تلميذه علامات الفشل ، فيحذره ، فحين يدخل الامتحان ويرسب فيه يأتي يعاتب أستاذه أنه بشَّره بالرسوب فيقول المعلم : وهل أمسكتُ بيدك ومنعتُك من الإجابة ، لقد حكمتُ عليك من خلال المقدمات التي رأيتها منك . ومع ذلك كان من الممكن أنْ يغشَّ هذا التلميذ في الامتحان وينجح رغم ما قاله المعلم لأن علمه عِلْمٌ ناقص ، أما علم الحق سبحانه فعِلْم تام . إذن : فعِلْم الوقوع ألزم للحجة . ثم يقول سبحانه : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } [ سبأ : 21 ] حفيظ صيغة مبالغة من الحفظ ، فالله تعالى حفيظ على الكنوز وعلى الأرزاق وعلى العلم وعلى كل شيء ، كما قال سبحانه : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] وما دام الله تعالى هو الحفيظ ، فلا أحدَ يستطيع أنْ يخل بهذه القضية . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ … } .