Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : قُلْ لهم يا محمد : من يرزقكم من السماوات والأرض ؟ لكن إذا كان محمد هو المستفهم منهم ، فمَنْ يجيب ؟ بالطبع هم لن يجيبوا لذلك أجاب الله قل الله فهذه حقيقة لا يستطيعون مجابهتها ، ولو اعترفوا بها لقُلْنا لهم إذن : لماذا لم تؤمنوا بالله وهو رازقكم ؟ أيليق بكم أنْ تكفروا به وهو الرازق ، وتؤمنوا بآلهة أخرى لا تنفعكم ولا تضركم ؟ فاعترافهم بهذه الحقيقة يلزمهم الحجة ، ويقيم عليهم الدليل على سَفَه تفكيرهم ، وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعفيهم من هذا الحرج ، فأجاب بدلاً منهم . والحق سبحانه يسألهم هذا السؤال لأن الإجابة لن تكون إلا على وَفْق مراده سبحانه وتعالى ، كما لو اشتريتَ مثلاً بدلة لشخص ما وفي موقف من المواقف أنكر جميلك ، فتقول له : مَنِ الذي اشترى لك هذه البدلة ؟ أنت لا تسأل هذا السؤال إلا وأنتَ واثق أن الإجابة ستكون في صالحك ، وأنه لا يستطيع الإنكار ، فلو أنكر ستقول له : تعال إلى التاجر الذي اشتريتها منه لنرى مَنِ الذي اشتراها ، فأنت تملك إقامة الدليل عليه إنْ أنكر . وقوله سبحانه وتعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] . الهدى : هو الدلالة على الخير والطريق إليه ، والضلال : أن تضلَّ عن الخير والدلالة إليه ، ومنه قوله تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [ الضحى : 7 ] . والهدى والضلال من المتناقضات في الدين ، والمتناقضان لا يجتمعان أبداً ، فلا بُدَّ أنْ يكون واحد على هدى والآخر على ضلال . كثيرون لا يفهمون الفرق بين الضد والنقيض ، الضد شيء يضادّ شيئاً ، لكن لا ينفيه ، كما تقول مثلاً : الشيء الفلاني أحمر أم أخضر ؟ فيقول لك : لا أحمر ولا أخضر إنما أبيض ، إذن : الضِّدان لا يجتمعان وقد يرتفعان معاً ، لا هذا ولا هذا ، بل شيء آخر . أما النقيضان فإنِ ارتفع واحد ثبتَ الآخر ، كما هنا في الهدى والضلال . فمعنى { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] إنْ كان أحدنا على الهدى فلا بُدَّ أنْ يكون الآخر في الضلال ، ولا ثالث لهما ، والحديث هنا عن منهج خير في جانب الإيمان ، ومنهج شرٍّ في جانب الكفر ، فرسول الله يقول لهم : نحن وأنتم على طرفي نقيض ، نحن نقول لا إله إلا الله وندعو إلى الخير ، وأنتم تكفرون بالله وتدعون إلى الشر ، ومع ذلك لا أحكم لي بالهدى ، ولا عليكم بالضلال ، بل أقول : أنا وأنتم على النقيض ، إنْ كان أحدنا على الهدى فالآخر في الضلال . بالله عليكم ، هل رأيتم حِجَاجاً أرقّ من هذا الحِجَاج ؟ فرسول الله لم يحكم لنفسه وللمؤمنين معه بالهدى رغم وضوحه في جانبهم ، ولم يحكم على الكفار بالضلال رغم وضوحه في جانبهم ، ومثال ذلك ، لو حلف رجلان على شيء واحد أمام رجل أعمى أيقول لواحد : أنت صادق ، وللآخر أنت كاذب ؟ لا ، بل يقول : واحد منكما صادق ، والآخر كاذب ، فهذا حكم أوَّلي لا يُلزم أحداً . لكن ، حين تبحث القضية يتضح لك مَنْ على هدى ومَنْ في ضلال { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] كلمة { لَعَلَىٰ هُدًى } [ سبأ : 24 ] على تفيد الاستعلاء ، كأن الهدى لا يستعلي عليك ، وإنما تستعلي أنت على الهدى وتكون فوقه ، كأنه مطية توصِّلك للخير المطلوب وللطريق المستقيم ، فساعةَ تقرأ عَلَى فاعلم أن هناك مكاناً عالياً ، وهناك ما هو دون هذا . وتأمل مثلاً قوله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ … } [ الرعد : 6 ] فالمغفرة تعلو الظلم لأن الظلم يقتضي أنْ تُعاقب ، فتأتي المغفرة فتعلو عليه وتمحو أثره ، وبعض المفسرين يرى أن على هنا بمعنى مع أي مع ظلمهم ، والمعية لا تستقيم هنا لأنها تسوِّي بين الظلم والمغفرة وتجعلهما سواء ، فكيف تتغلب المغفرة على الظلم بهذا المعنى ؟ إذن : لا بُدَّ أن تكون المغفرة على الظلم ، لا مع الظلم . كذلك في قوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ … } [ إبراهيم : 39 ] فقال { عَلَى ٱلْكِبَرِ … } [ إبراهيم : 39 ] لأن الكِبَر كان يمنعه أنْ ينجب ، فالحق سبحانه خرق له هذه القاعدة ، وأعطاه إسماعيل وإسحاق على كِبَره ، وقلنا : إن الكِبَر هو أقوى الأحداث التي يتعرَّض لها الإنسان لذلك قال سيدنا زكريا عليه السلام : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] . والعُتُو يعني : الجبروت والقوة ، أما الكِبَر فضعفْ وهُزَال وعدم قدرة على أبسط الأشياء مهما قاومه بالغذاء وبالفيتامينات ، فلا شيء يَقْوى عليه أو يمنعه لذلك إذا تعددتْ الداءات في الجسم فلا مرجع لها إلا الكِبَر ، والإنسان بعد سنِّ السبعين والثمانين يشتكي كل شيء في جسمه لذلك يسمونها أمراض الشيخوخة . يعني : لا سببَ لها إلا كِبَر السن . إذن : نقول { لَعَلَىٰ هُدًى … } [ سبأ : 24 ] أى : أن الهدى سيكون مطيتك التي توصلك إلى الجنة وإلى النعيم ، أما الضلال فقال { فِي ضَلاَلٍ … } [ سبأ : 24 ] وكأنها ظلمة تحيط بالضالِّ وهو يتخبط فيها ، لا يدري أين يذهب ، ومعنى { مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] واضح بيِّن .