Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 28-28)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { أَرْسَلْنَاكَ … } [ سبأ : 28 ] أي : جعلناك رسولاً { إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ … } [ سبأ : 28 ] كلمة كافة تبين منزلة الرسول الخاتم ، فقبل بعثة سيدنا رسول الله كان الرسول يُبعث لقوم مخصوصين ، كما قال سبحانه وتعالى : { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ … } [ آل عمران : 49 ] . ذلك ، لأن البشر لما تكاثروا كما قال سبحانه : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً … } [ النساء : 1 ] تفرَّقوا في أنحاء الأرض هنا وهناك ، والعالم لا يزال في طفولة فطرته ، ليس فيه ارتقاءات للقاء بين هذه الجماعات ، فكانت جماعات منعزلة ، لا اتصال بينها ، ولكل بيئة منها داءاتها : فهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء يعبدون الأصنام … إلخ فيأتي الرسول إلى قوم مخصوصين ليعالج داءهم لا علاقة له بغيرهم . أما سيدنا رسول الله ، فكان هو الرسول الخاتم المبعوث للناس كافّة لأن الله تعالى عَلِم أزلاً أنه سيأتي على التقاء مع الدنيا كلها ، وعلى اتصال بين الجماعات التي كانت مُتفرِّقة ، وها نحن الآن نعيش عالم القرية الواحدة ، وما يحدث في أقصى بلاد الدنيا نسمعه ونراه في وقته ، وما دام العالم التقت مجتمعاته وقاراته ، فالداءات واحدة لذلك جاء رسول واحد ليعالج كل الداءات في كل المجتمعات ، هذا معنى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ … } [ سبأ : 28 ] . ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل أنه مشهود له ، وليس شاهداً لغيره ، فقد أخذ الله تعالى العهد على الرسل ، أنه إذا جاء محمد يشهدون له فشهدوا له جميعاً ، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يشهد لأحد لأنه لم يأْتِ بعده رسول . قال العلماء في كلمة { كَآفَّةً … } [ سبأ : 28 ] يعني : للناس جميعاً ، ففي موضع آخر يقول تعالى : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً … } [ الأعراف : 158 ] . يعني : لم تَعُدْ هناك خصوصية ، لا زمانية ولا مكانية . وحين نتأمل كلمة { كَآفَّةً … } [ سبأ : 28 ] نجد لها مناسبة في واقع لغتنا ، استقر على ألسنة العامة : نشاهد الخياط مثلاً حين يخيط ثوباً يُعمِل المقصَّ في القماش ، فيقطعه إلى لُحمة وسُدة ، لكن تخرج خيوط الثوب من خلال أطرافه كما نقول القماش بينسِّل فيجمع الخياط هذه الأطراف بعضها إلى بعض ، بحيث تكون أطراف القماش إلى الداخل ، وهذه العملية نسميها كفكفة القماش ، أو نسميها الآن السَّرفلة . ومن ذلك كلمة كَافَّة يعني : جَمْع شتات الناس في كل زمان ومكان ، بحيث لا يخرج منهم جنس ولا جماعة ، ولا يشذّ عن منهجه أحد . وعندنا في الفلاحين نبات ينمو على حوافِّ القنوات اسمه النجيل ، وهو غير الحشيش المعروف ، والنجيل لا يرتفع عن سطح الأرض ، وتتشابك عيدانه وجذوره بحيث يمنع هذه الحوافّ أن تنهار ، أو يسقط منها الردم فيسدّ القناة ، فكأن النجيل أدى مهمة هي كفّ الردم ومنعه أنْ ينهار يعني : كفّ جنساً أن يشرد عن مهمته . وكلمة { كَآفَّةً … } [ سبأ : 28 ] من كفّ الشيء يكُفُّه ، فهو كافٌّ ، وزيدت تاء التأنيث للمبالغة ، كما في عالم وعلاَّم وعلاَّمة ، لذلك يقول ربنا عن نفسه سبحانه : { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ التوبة : 78 ] فإنْ قُلْتَ : لماذا لم يَقُلْ علاَّمة ؟ نقول : لأن علْم الله تعالى لا يترقى بلاغة وقِلَّة . فمعنى { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ … } [ سبأ : 28 ] يعني : تكفُّهم وتمنعهم عن كل شر يفسد الصلاح في الأرض ، وهذه هي مهمة المنهج الذي جاء به سيدنا رسول الله لذلك قال سبحانه : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا … } [ الأعراف : 56 ] . إذن : كلمة { كَآفَّةً … } [ سبأ : 28 ] إما وَصْف للناس بمعنى جميعاً ، وإما وَصْف لرسول الله بمعنى كافٌّ للناس عن الشر ، والتاء للمبالغة . ومعنى { بَشِيراً وَنَذِيراً … } [ سبأ : 28 ] من البشارة ، وهي أنْ تخبر بخير لم يَأْتِ أوانه بعد ، ويقابلها النذارة ، وهي أن تخبر بشرٍّ لم يأْتِ أوانه بعد ، فمَيْزة البشارة أنها نخبرك بالخير القادم لك لتأخذ بأسبابه وتُقبل عليه وتجتهد في سبيله ، وأنت مشتاق إليه ، كذلك النذارة تحذرك من الخطر المقبل لتنصرف عن أسبابه وتدفعه عنك . ومثال ذلك : المعلم الذي يبشِّر التلميذ المجتهد بالنجاح والتفوق ، وينذر المهمل بالفشل والرسوب ، لماذا ؟ لأنه يريد من المجتهد أنْ يزيد في اجتهاده ، ومن الكسول المهمل أنْ يترك الكسل والإهمال ليتفوَّق هو الآخر . وقوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ سبأ : 28 ] أي : لا يعلمون أنك الرسول الخاتم ، أو الرسول الذي جاء ليمنع الشر عن البشرية كلها ويصلح حركتها . وما دام أكثر الناس لا يعلمون ، فمعنى ذلك أن القلة هي التي تعلم ، وهذه القلة العالمة هي خميرة الخير في الوجود لذلك نرى الناس مهما بالغوا في الإلحاد ، وفي الخروج عن منهج الحق لا بُدَّ أن تخرج من بينهم هذه القلة التي تتمسك بالحق وتسعى إليه وتنادي به ، فهي موجودة في كل زمان ومكان وإنْ قلَّتْ . لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " . إذن : لا بُدَّ أنْ تبقى فينا هذه القلة كنماذج وخليّات للخير ، ولاستبقائه بين الناس مهما أظلمتْ الدنيا من حولهم . ثم يقول الحق سبحانه : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ … } .