Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 34-34)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

نلحظ في هذه الآية أنها ذكرتْ النذارة ، ولم تذكر البشارة ، لماذا ؟ قالوا : لأن الحديث عن قرية استشرى فيها الفساد بحيث لم يَعُدْ لها إلا النذارة ، فهؤلاء قوم كذَّبوا الرسل ، ووقفوا من الدعوة موقفَ العداء والمكابرة . أما البشارة فتكون في عموم الدعوة ، والحديث هنا عن دعوة خاصة بهؤلاء المكذبين . ومعنى { فِي قَرْيَةٍ } [ سبأ : 34 ] أي : في أهل قرية ، والقرية اسم للمكان ، أو أن الله سبحانه جاء بالمكان وإنْ كان يريد المكين لأن المكان كجماد مُسبِّح لله ، فيفرح بالمؤمن المسبِّح فيه ، ويحزن ويضيق بالكافر الذي يقيم فيه لذلك يقول العربي القديم فلان نبا به المكان يعني : المكان كرهه ، ولما قالوا لرجل حكيم : أدريتَ أن فلاناً باع أرضه ؟ قال : بل باعَتْه أرضه . وقوله { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [ سبأ : 34 ] جمع مُتْرف وترف يترف أي : تنعَّم . أما أترف فتعني أن النعمة أطغَتْه وفتنته ، فالحق سبحانه لم يمنع عبده أنْ يتمتع بنعمه ، المهم ألاَّ تُطغيه النعمة . وقد يكون الترف والتنعُّم استدراجاً من الله للعبد ، وإملاءً له ، ومَدًّا له في النعمة حتى يَطْغى بها ، وتأمل مثلاً قول الله تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ } [ الأنعام : 44 ] ولم يقُلْ لهم يعني ليس هذا الفتح في صالحهم مع أنه في ظاهرة نعمة { أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ } [ الأنعام : 44 ] وتعوَّدوا النعمة وأَلِفوها { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً … } [ الأنعام : 44 ] . لذلك ، ليس من الصواب قولُكَ لأخيك : فتح الله عليم والصواب : فتح الله لك . واقرأ : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا … } [ فاطر : 2 ] وحكوْا لنا عن سياسي كبير كان له خصم ، ففوجئوا بأنه أصدر قراراً بترقية هذا الخَصْم إلى منصب كبير ، فتعجبوا : كيف يُرقى خصمه ؟ فقال : أرفعه إلى منزلة عالية ، حتى إذا سقط منها كان السقوط مؤلماً ، وسبق أنْ قُلْنا : إذا أردتَ أنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق الحصيرة مثلاً . ومن الاستدراج بالنعمة والترف قوله تعالى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] . البعض يخطىء فَهْم هذه الآية ، فيقول : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [ الإسراء : 16 ] أن الفسق مترتب على الأمر . والله سبحانه لا يأمر بالفسق ، ولا يأمر بالفحشاء ، وإنما يأمر بالطاعة والعبادة ، كما قال سبحانه : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ البينة : 5 ] وقال : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ … } [ النحل : 90 ] فالمعنى : أمرنا مترفيها بما يأمر الله به ، فما كان منهم إلا أنْ فسقوا فيها أي : فسقوا في الأمر ، إذن : الفسق ليس مترتباً على الأمر ، وإنما على مخالفة الأمر . الحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية الترف والإتراف يقول : أنا أنعمتُ على عبادي نعماً يتنعَّمون بها ، إنما كنتُ أريد أنْ يستقبلوا هذه النعم بالشكر ، وأنْ يُعدوا النعمة إلى غير المنعِّمين ليحصل في المجتمع المسلم التكافل الاجتماعي المطلوب ، ولينزع هذا التكافل الغِلَّ والحقد من قلوب الفقراء على الأغنياء . فالفقير إذا رأى الغنى ينتفع بآثار النعمة ، ويتمتع بها دونه ، يحقد عليه ، ويتمنى زوال نعمته ، فإنْ نال منها شيء أحبَّ الغنى ، وسأل الله له المزيد ، هذا من ناحية الفقير . أما من ناحية الغنيِّ ، فالحق سبحانه يعلم أن الإنسان عامة مطبوعٌ على النفعية لذاته وحب الخير لها لذلك عامله الحق سبحانه بهذا المنطق ، منطق النفعية حين يعطيه جزاءَ ما أنفق ، ويثيبه على ما يفعل من الخير ، قال له : الحسنة بعشر أمثالها ، غُض طرفك عن المحارم في الدنيا أمتعك بالحور العين يوم القيامة … الخ . لذلك يقولون : إن التدين نفعية عالية ، فأنت مثلاً ما آثرتَ الفقير على نفسك ، وما أعطيتَهُ ما في جيبك إلا لأنك تريد من الله تعالى أضعاف ما أعطيت . إذن : أنت حتى في تجارتك مع الله تحب النفع لنفسك . والحق سبحانه يعطي الغني وصاحب الهمة العالية الذي يكدح ويتعب ويُكوِّن الثروة ، يعطيه حقه ، ويحترم جهده وعرقه ، ويحترم مشاعره النفعية ، فحين يسـأله يسأله جزءاً من ماله ، لا ماله كله ، واقرأ قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 36 - 37 ] . ويُحبِّبهم في الإنفاق بنفس هذا المنطق : { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ … } [ محمد : 38 ] . إذن : مسألة الإنفاق هذه تُخرِج ضِغْن الغني ، كما أخرجتْ ضِغِن الفقير ، فهي تُحدِث استطراقاً إيمانياً ، واستطراقاً اقتصادياً في المجتمع ، فصاحب المال يحمد الله على النعمة ، ولا يبخل بها على الفقير ، والفقير يحمد الله أنْ جعل النعمة في يد مَنْ يجود بها عليه ، وهكذا يحدث التوازن في المجتمع . نعود إلى ما كُنَّا بصدده من قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] لماذا أنتم كافرون بما جاء به الرسل ؟ الحق - تبارك وتعالى - يريد من العباد ألاَّ يستعلي قوي على ضعيف ، وألاَّ يستعلي غني على فقير ، وألاَّ يستعلي عالم على جاهل ، إنما يريد أن يعمَّ الخير ، فمَنْ كانت عنده خَصْلة من خصال الخير عَدَّاها إلى غيره . أما هؤلاء فقد اختاروا الكفر ، واطمأنوا إليه لأن النعمة أطغتهم وأترفتهم ، فمالوا إلى البذخ وإلى المظالم حتى عَشِقوا هذا كله ، فلما جاء الدين ليُعدِّل من سلوكهم صادموه ، وحاولوا طمسه والقضاء على دعوته لأنهم ألفوا السيادة ، وألِفُوا الطغيان ، ولا يريدون أنْ تُسلب منهم هذه السيادة . وإلا لو أن العالم كان مستقيماً متوازناً ما كانت هناك حاجة للرسل ، إذن : ما جاء رسول إلا بعد أنْ عَمَّ الفساد وطَمّ . وسبق أنْ قُلْنا : إن الحق سبحانه خلق في النفس الإنسانية مناعة إيمانية نتيجة الفطرة الأولية ، لكن الشهوات وتقاليد الظالمين تطمس هذه الفطرة ، فتحتاج إلى مُذكِّر يعيدها إلى الطبيعة والفطرة التي خلقها الله ، لذلك قال سبحانه : { إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [ الغاشية : 21 ] يعني : ليس بادئاً . والحق سبحانه يُبين أن الناس أمام الخير والشر أنواع ثلاثة ، فقال الحق سبحانه وتعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [ فاطر : 32 ] . فالظالم لنفسه هو الذي يفعل السيئة ، ولا يلوم نفسه ، ولا يندم على سيئته ، ولا يتوب منها ، فهو يظلم نفسه لأنه يحرمها الجزاء والنعيم الأبدي . والمقتصد هو الذي يتردد بين الحسنة والسيئة ، فإنْ فعل سيئة تذكَّر ولام نفسه وتاب ، ثم يفعل الحسنة لتُكفِّر السيئة ، وهؤلاء قال الله فيهم : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 102 ] . وقوله سبحانه : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] يُراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم : لأن الميراث يعني أن الموروث ينتقل من السابق إلى اللاحق ، فأمة محمد ورثتْ الرسل جميعاً في كل أمورهم الخيرية ، وتكفَّلَتْ بأن تردع الشر في كل نواحيه ، وبذلك ورثوا الرسالات كلها لأنهم يأمرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر ، كما قال سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 110 ] . وقال تعالى أيضاً : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] . فالرسول يشهد أنه بلَّغكم ، وأنتم تشهدون أنكم بلَّغتم مَنْ بعدكم ، رسولكم فوَّضه الله في أنْ يُشرِّع لكم ، وفوَّضكم أنتم في أنْ تحملوا منهجه من بعده لذلك انقطعتْ الرسالات بعده صلى الله عليه وسلم لأن أمته ستقوم بمهمة الرسالة ، وهذا دليل على أنها أمة ، الخيرية فيها باقية إلى قيام الساعة . وقولهم : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] بم أُرسِل الرسلُ ؟ أُرسِلوا أولاً بقضية التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله ، أرسلوا بالبلاغ عن الله ، أرسلوا بمعجزات ، أُرسلوا بأحكام ومناهج تحكم حركة الحياة . فهؤلاء كفروا بهذا كله لأنهم يريدون أنْ يعيشوا في ترفهم وظلمهم ، وأنْ يستبدوا كما يشاؤون . لكن قولهم { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } [ سبأ : 34 ] دلَّ على غبائهم لأنهم لم يقولوا مثلاً بما جئتم به ، أو بما ادعيتموه ، إنما بما أُرسِلتم به ، فهم يعترفون بأنهم مُرسَلُون ، فهذه كلمة الحق ساقها الله على ألسنتهم ، كما ساقه على ألسنتهم في قولهم : { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ } [ المنافقون : 7 ] وقولهم لما فتر الوحي عن رسول الله : إن رب محمد قلاه . إذن : هم يعترفون لرسول الله بالرسالة ، والمرسل لا يُرسَل من مثله ، إنما من جهة أعلى ، فالرسالة ليست من عند محمد { قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] لكن ، ما علة هذا الكفر ؟