Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 36-36)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي قُلْ ردًّا عليهم في اغترارهم بكثرة الأموال والأولاد : { إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [ سبأ : 36 ] يبسط : يُوسع الرزق بكرمه ، ويقدر : يعني : يضيقه على مَنْ يشاء بحكمته تعالى . والرزق لازمة من لوازم الربوبية التي خَلَقَتْ ، والتي استدعت الإنسان للوجود ، فلا بُدَّ أن تضمن له مقومات حياته . لكن الرازق سبحانه لا يرزق الناس جميعاً بمسطرة يعني بالتساوي لأن الله تعالى يريد أن تكون المجتمعات متعاونة متكافلة ، ولو أن كل إنسان كان عنده ما يكفيه ما احتاج أحد إلى أحد ، وما حدث في المجتمع هذا الترابط وهذا الاتصال الجماعي . وسبق أنْ أوضحنا أن ترابط المجتمع لا بُدَّ أنْ يكون ترابط حاجة ، لا ترابط تفضّل ، فلو فرضنا أننا جميعاً تخرّجنا في الجامعة ، أو أخذنا الدكتوراة ، فمن يكنس الشوارع ، ومن يمسح الأحذية ؟ لو جعلنا هذه الأعمال تفضّلاً من بعضنا ما قَبِلها أحد . وقلنا : إن الرجل المتعجرف أو المتكبر أو الباشا لو عاد إلى بيته فوجد به رائحة كريهة فسأل فقالوا : المجاري بها كذا وكذا لا شكّ أنه لن يهدأ له بال حتى تنتهي هذه المشكلة ، وربما ركب سيارته ، وذهب بنفسه إلى السباك ليُخلِّصه من هذه المشكلة . نقول في هذه الحالة : إن السباك فاضل على الباشا في هذا الوقت ، لأن الله أعطاه قدرة على نفسه لا يملكها الباشا أو حامل الدكتوراة ، وهذا السباك ما تحمَّل مثل هذا العمل إلا لحاجته إليه وإلا ما قَبِلَه . لذلك أحسن الشاعر حين قال : @ النَّاس للنَّاسِ من بَدْوٍ وحَاضِرةٍ بَعْضٌ لبعْضٍ وإنْ لم يَشْعُروا خَدَمُ @@ وهذه الخدمة تقوم على التداول ، فالحق سبحانه لم يجعل ذرية كلها خادمة ، وذرية مخدومة ، إنما أنت خادم في شيء ومخدوم في شيء آخر ، وهكذا كلنا خادم ، وكلنا مخدوم ، ليعلم الإنسان أياً كان أنه ابن أغيار ، وأن سيادته ليست ذاتية فيه ، فإنْ كان هو الأعلى عليه أنْ يُقدر هذا العلو ويعمل له ليظل على عُلُوه ، فإنْ رأى الأدنى منه فلا يحقره ، بل يُقدِّر له مهمته في خدمته ، وأنه سيحتاج إليه في يوم ما في عمل لا يقدر هو عليه . لذلك يقول تعالى : { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ … } [ النحل : 71 ] كثيرون يظنون أن الرزق هو المال ، إنما الرزق كلمة عامة يُراد بها كل ما ينتفع به الإنسان ، والحق سبحانه فضَّل بعضنا على بعض في هذه الأشياء ، لكن أيُّ بعض فضَّل ؟ وأيُّ بعض فضَّل عليه ؟ أنت مُفضَّل فيما لك فيه موهبة ، ومفضَّل عليه فيما لا موهبةَ لك فيه ، وهكذا يتكاتف المجتمع ويتكامل ، ويرتبط ارتباطَ حاجة لا ارتباطَ تفضُّل . وتأمل قوله تعالى : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] وشكراً ، وكثَّر الله خيرك أنْ نسبتَ الإكرام لربك { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] فيقول الحق كَلاَّ يعني : أنت كذاب في هذا القول لأن بَسْط الرزق ليس دليلاً على التكرم ، ولا تضييقه دليل إهانة . وإلا كيف يكون بَسْط الرزق دليلَ التكريم ، والناس فيما يُرْزَقون لا يكرمون به اليتيم ، ولا المسكين ، ويأكلون التراث أكلاً لماً . { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 18 - 20 ] . إذن : على الإنسان أنْ يتأدب مع الله فيما صنع لأن الله يعلم كيف يرزق ، وهو سبحانه يريد أنْ يجعل من الناس أُسْوة للناس ، فالغني الذي افترى بماله يُبقيه الله حتى يرى فيه الفقير المفْترَى عليه ، يرى فيه عقاب الله ليعلم أن لله تعالى ألوهية ، ولله تعالى قيومية ، لا يفلت الظالم من عقابها في الدنيا قبل الآخرة . وهذا المعنى خاطب الله به نبيه فقال : { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ غافر : 77 ] . ثم إن مسألة الرزق لا تتوقف على مهارة ، أو شطارة ، أو علم ، فهناك مَنْ سعى للرزق وزرع واجتهد ، لكن عند الحصاد جاءتْه جائحة اجتاحت زرعه فأهلكتْه ، وكأن الحق سبحانه يقول لنا : إياك أنْ تفطن إلى ألوهية الأسباب ، وتغفل ألوهية المسبب . والرزق مقسوم لصاحبه ، وإنْ حمله غيره ، فالجنين في بطن أمه غذاؤه من تكوينها ومن دمها ، لكن هذا الدم وإنْ حملتْه الأم ليس رزقها ، بدليل أنه إذا حدث الحمل توافر هذا الدم لغذاء الجنين ، فإنْ لم يحدث الحمل نزل منها هذا الدم في عملية الحيض ، ولم تنتفع به الأم ، لماذا ؟ لأنه ليس رزقها هي ، وهذا يساعدنا في فهم قوله تعالى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [ الإسراء : 31 ] . لذلك قالوا : ليس كل ما تملك رِزْقاً لك ، إنما رزقك ما انتفعتَ به ، فالشيء يكون في ملكك وفي حوزتك تظن أنه لك ، ثم يضيع منك ، أو يُسرق أو يُؤمَّم أو تُصيبه جائحة … إلخ بل أكثر من ذلك قد يكون طعاماً وتأكله بالفعل ، ويتمثل في جسمك دماً يجري في عروقك ، ثم يسيل منك بسبب جرح ، أو عملية جراحية مثلاً : إذن : هذا الدم ليس رزقاً لك . فالمؤمن ينبغي أنْ يظمئن إذن إلى عملية الرزق ، ويعلم أنها بقيومية الله التي ترزق المؤمن والكافر ، وأن الرزق مقسوم لك ، مُسمّى باسمك ، فلا يأخذه غيرك مهما كان ، فإنْ بُسِط لك فاحمد الله ، وإن قُتِّر وضُيِّق عليك فاعلم أنها بحكمة الله ، واقرأ : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر 21 ] . ثم تُختم الآية بقوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ سبأ : 36 ] فالأكثرية لا يعلمون حكمة الله في تفاوت الأرزاق ، وهذا يعني أن قلة منهم هم الذين يعلمون ، فاللهم اجعلْنَا من هذه الأقلية . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ … } .