Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 3-3)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هنا أيضاً يُحدِّثنا عن الساعة ، ففي آخر الأحزاب { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ … } [ الأحزاب : 63 ] وهنا ينكرونها { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ … } [ سبأ : 3 ] أي : القيامة . فلماذا ينكرونها ؟ نعم ينكرونها لأنهم أسرفوا على أنفسهم ، وتمادوا في غيِّهم ، ولن تكون القيامة في صالحهم لذلك يهربون منها بالإنكار والتكذيب . حتى إخوان هؤلاء المكذبين مِمَّنْ يحبون أن يستدركوا على كلام الله يقولون : إذا كان الله قد قدَّر كل شيء على العبد ، فقدَّر الطاعة ، وقدَّر المعصية ، فلماذا يعذبه على المعصية ؟ والمحلاحظ ، أنه لم يقُلْ أحد منهم في المقابل : ولماذا يثيبه على الطاعة ؟ مما يدل على أن هذه الوقفة خاطئة وغير منطقية ، وأنهم يخافون العقاب ، وصاحب هذه المقولة ما قالها إلا لأنه واثق من كثرة سيئاته ، ومن مصلحته أن يُكذِّب بالقيامة وينكرها ، كالذي قال : { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] . فكثرة سؤالهم عن الساعة وإنكارهم لها يدلُّ على خوفهم منها ، بل هم مرعوبون من مجرد تصديقها لأنهم يعلمون جيداً أنهم إن استتروا عن الناس فلن يستتروا من الله ، وإنْ عَمُّوا على قضاء الأرض فلن يُعَمُّوا على قضاء السماء ، ولن تنفعهم في القيامة حجة ولا لباقة منطق ، ولا تزييف للحقائق . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر مثلكم ، وإنكم تختصمون إليَّ ، ولعلَّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحُجَّته فأقضى له ، فمَنْ قضيتُ له من حقِّ أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أُقْطِع له قطعةً من النار " . فالقاضي يحكم بالحجة وبالبيان ، ويمكن للمتكلم أَن يُضلِّل القاضي ، وأنْ يأخذ حقَّ الآخرين ظلماً ، كما يفعل بعض المحامين الآن ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فأنت في محكمة قاضيها الحق سبحانه وتعالى . إذن : هؤلاء ينكرون القيامة لأنها اللغز الذي يحيِّرهم ، والحقيقة التي تقضُّ مضاجعهم وتُرعبهم ، الحقيقة التي تزلزل جاههم ، وتقضي على سيادتهم ، وإنْ أَمِنوا في الدنيا لما لهم من جاه وسيطرة ، ففي القيامة سيأتون كما قال تعالى { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ … } [ الأنعام : 94 ] . وكثرة سؤالهم عن الساعة له نظير في العالم الحديث وفي عالم الاقتصاد ، فمثلاً ترى الرجل كلما جلس مع عالم سأله عن رأي الدين في فوائد البنوك ، حتى إنه ليسأل في ذلك ألفَ عالمٍ ، فلماذا لا يكتفي بقول واحد منهم ؟ لأنه يريد أنْ يسمع رأياً على هواه يقول له : إن فوائد البنوك حلال ، فهذه مسألة شائكة تشغل الكثيرين ، لكن ما دامت قد حاكتْ في الصدر ، فهي من الباطل الذي قال عنه سيدنا رسول الله : " والإثم ما حاك في الصدر ، وخشيتَ أنْ يطلعَ عليه الناسُ " . ثم يرد الحق سبحانه على إنكارهم للساعة ، فيقول مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ … } [ سبأ : 3 ] يعني : قُلْ بِملء فيك بلى وبلى نفي للنفي السابق في قولهم { لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ … } [ سبأ : 3 ] وحين ننقض النفي ، فإننا نثبت المقابلَ له ، فمعنى بلى أي : أنها ستأتي . ثم لا يكتفي الأسلوب بذلك ، إنما يؤكد هذه القضية بالقَسَم { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ … } [ سبأ : 3 ] فالحق سبحانه يُعلِّم رسوله أنْ يحلف بذاته سبحانه وهو مطمئن أنها ستأتيهم ، والحق سبحانه لا يُلقِّن رسوله يميناً كاذباً ، والحق سبحانه صادق دون حلف ، فما بالك حين يحلف لك ؟ وقوله تعالى بعدها { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ … } [ سبأ : 3 ] فيه إشارة إلى أننا لا نخبر بالساعة ولا نحلف على إتيانها من فراغ ، إنما بما عندنا من علم الغيب ، فهي لا بُدَّ آتية ، ليس هذا فحسب ، إنما سنُوافيكم فيها بإحصاء كامل للذنوب ، كبيرها وصغيرها ، ظاهرها وخَفيِّها ، فعالِم الغيب لا يخفى عليه شيء مهما استتر ، ومهما كنتَ بارعاً في إخفائه عن الناس . { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 3 ] لا يعزب : لا يغيب عن علمه . والحق سبحانه في جمهرة الآيات يضرب المثل لِصِغَر الأشياء بالذرة ، وهي الهباءة التي نراها في شعاع الشمس ، ولا نراها في الظل لِصِغَر حجمها ، إذن : كَوْنُك لا ترى الشيء لا يعني أنه غير موجود ، بل موجود ، لكنْ ليستْ لديك آلة البصر الدقيقة التي تستطيع رؤيته بها ، والعين المجردة لا ترى كلَّ الأشياء ، لكن حزمة الضوء القوية تساعدك على رؤية الأشياء الدقيقة لذلك قالوا : إن الضوء والذر أحكم مقاييس الكون . لذلك يستخدم المهندسون هذه الظاهرة مثلاً في استلام المباني ، والتأكد من دقة تنفيذها ، فالحائط الذي يبدو لك مستوياً مستقيماً لو تركتَه عدة أيام لكشفَ لك الغبار عَمَّا فيه من نتوءات وعدم استواء لأن الغبار والذرات تتساقط عمودياً ، كذلك الضوء حين تُسلِّطه على حائط يكشف لك ما فيه من عيوب ، مهما كانتْ دقيقة لا تراها بالعين المجردة . ولأن الذرة كانت أصغر ما يعرفه الإنسان ، قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ … } [ النساء : 40 ] . لكن ، هل ظلَّتْ الذرة هي أصغر ما في الكون ؟ حينما انهزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى لم تقبل الهزيمة ، وأبَتْ أنْ تكون مغلوبة فصممتْ على أنها تثأر لنفسها ، فاشتغل كل فرد فيها في اختصاصه ، وكان مما أنجزوه عملية تحطيم الجوهر الفرد أي : تحطيم الجزء الذي لا يتجزأ ، وهذه أول فكرة في تفتيت الذرة يعرفها العالم . وهذه العملية نشاهدها نحن في عصارة القصب مثلاً ، وهي أن تُدخِل عود القصب بين أسطوانتين ، فكلما ضاقت المسافة بين الأسطوانتين زَادت عملية العصر وتفتيت العود ، كذلك عملت ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد . وعندها قال الذين يحبون أن يستدركوا على كلام الله ذكَر القرآن أن الذرة هى أصغر ما في الكون ، وها نحن فتتنا الذرة إلى أجزاء . ولو أَلَمَّ هؤلاء بكل القرآن ، وقرأوا هذه الآية : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 3 ] لعرفوا أن القرآن احتاط لما سيأتي به العلم من تفتيت الذرة ، وأن في كلام الله رصيداً لكل تقدم علميٍّ . وتأمل الدقة الأدائية هنا ، فقط ذكر الذرة ، وهي أصغر شيء عرفه الإنسان ، ثم ذكر الصغير عنها والأصغر بحيث مهما وصلنا في تفتيت الذرة نجد في كلام الله رصيداً لما سنصل إليه . وقال : { لاَ يَعْزُبُ … } [ سبأ : 3 ] لا يغيب { عَنْهُ مِثْقَالُ … } [ سبأ : 3 ] مقدار { ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ … } [ سبأ : 3 ] لشمول كل ما في الكون { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ … } [ سبأ : 3 ] أي : أصغر من الذرة { وَلاَ أَكْبَرُ … } [ سبأ : 3 ] من الذرة . ولقائل أنْ يقول : إذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بمعرفة الذرة ، وما دَقَّ من الأشياء ، فما الميْزة في أنه سبحانه يعلم الأكبر منها ؟ قالوا : هذه دقيقة من دقائق الأسلوب القرآني ، فالشيء يخفى عليك ، إما لأنه مُتناهٍ في الصِّغَر ، بحيث لا تدركه بأدواتك ، أو لأنه كبير بحيث لا يبلغه إدراكك ، فهو أكبر من أنْ تحيط به لِكبره ، إذن : فالحق سبحانه مُسلَّط على أصغر شيء ، وعلى أكبر شيء لا يغيب عنه صغير لصِغَره ، ولا كبير لِكِبَره . والحق سبحانه لا يحيط علمه بما في كَوْنه فحسب ، بل ويُسجِّله في كتاب مُعْجِز خالد ، وفَرْق بين الأخبار بالعلم قوْلاً وبين تسجيله ، فإذا لم يكُنْ العلم مُسجَّلاً فَلَك أن تقول ما تشاء ، لكن حين يسجل يصير حجة عليك . لذلك نرى الحق سبحانه حين يعطينا قضية في الكون يحفظها مع القرآن ، وأنت لا تحفظ إلا ما في صالحك ، وما دام الحق سبحانه يحفظها فهذا يعنى أنها واقعة لا محالة ، وإلا ما سجَّلها الحق سبحانه وحفظها ، فهو سبحانه يعلم تمام العلم أنه لا يكون في مُلْكه إلا ما علم ، إذن : كتب لأنه علم ، وليس عَلِم لأنه كُتِب . ومَن الذي أمر بكتابته ؟ علمه سبحانه إذن : فالعلم أسبق . لكن ، لماذا عندما سألوا عن الساعة أو أنكروها ذكَّرهم الله بعلمه لكل صغيرة وكبيرة ، فقال : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ سبأ : 3 ] . قالوا : ذكر لهم الحق سبحانه إحاطة علْمه بكل شيء ليلهيهم عن التفكير في أمر الساعة ، ويشغلهم بذنوبهم ، وأنها محسوبة عليهم لا يخفى على الله منها شيء ، وعندها سيقولون : ليتنا ما سألنا ، كما قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ … } [ المائدة : 101 ] . إذن : سألوا عن الساعة ، فأخذهم إلى ساحة أخرى تزعجهم وتزلزلهم كلما علموا أنَّ عِلْم الله تعالى يحيط بكل شيء في السماوات وفي الأرض . فالمسألة ليست مجرد فنطزية عِلم ، إنما سيترتب على هذا العلم جزاء وحساب ، فقال سبحانه : { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } .