Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 48-49)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لك أنْ تلحظ هنا حدة الأسلوب ، خلافاً للآيات السابقة التي كانت تعظهم وتتودد إليهم ، وكأن الحق سبحانه يقول لهم : لا تظنّوا أننا سنظل نتودد إليكم ، أو أنكم الذين ستسيِّرون المراكب ، فالدين سيُظهِره الله رغم عنادكم ، والحق سيعلو رغم كفركم . فقال سبحانه : { قُلْ } أي : ردًّا عليهم { إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } [ سبأ : 48 ] فبعد أنْ أعطاكم الفرصة ، وبعد أنْ طال تمردكم ، فالآن ربي سيقذف بالحق ، كما قال سبحانه في موضع آخر { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 18 ] . والقذف : الرمي بشدة ، وهي كلمة تُوحِي بالعنف والقوة ، إنْ جاءت من البشر ، فما بالك إنْ كان القذف من الله ، والمقذوف من الله هو الحق ، والحق كما قلنا هو الشيء الثابت الذي لا يتغير . والقذف لا بُدَّ أنْ له غرضاً وغاية ، ومَنْ أراد أنْ يقذف شيئاً عليه أنْ يُحدِّد المسافة لقريب أم لبعيد ، فإن كان لقريب فقلَّما يخطىء القاذفُ المقذوفَ ، وإنْ كان القذف لهدف بعيد فاحتمال الخطأ أكثر ، وهكذا كلما بَعُدَتْ المسافة لأن معنى القذف تحديد موضع لتصل القذيفةُ إليه ، وتصيب الغايةَ المقصودة منها . وعندما يكون الموضع قريباً ، فالتغيرات التي ستطرأ عليه قليلة لأن زمن وصول القذيفة إليه قصير ، على خلاف الهدف إنْ كان بعيداً فهو عُرْضة لأنْ يتغير ، فتختلف مثلاً زاويته بسبب الريح ، أو الأعاصير أو خلافه لذلك نحتاج في هذه الحالة إلى أجهزة وحسابات دقيقة تحسب بُعْد الهدف وقوة المقذوف ، وقوة الريح أي : تتصادم معه وغير ذلك من حسابات السرعة والزمن ، كالذي يرمي الطير مثلاً وهو في الهواء ، لا بُدَّ أنْ يغير نقطة التنشين لتناسب حركةَ واتجاه الطائر . ولا أَقْدَر على هذه العملية من علاَّم الغيوب سبحانه ، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض لذلك جاء الحق سبحانه بالصفة التي تناسب الدقة في هذه العملية ، فقال : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ سبأ : 48 ] فهو سبحانه أولاً يقذف بالحق ، وقذيفته سبحانه لا تخطىء هدفاً لأنه تعالى علاَّم الغيوب . والحق الذي يقذف الله به هو المنهج الذي أنزله من السماء يقذفه لغاية وهي الرسالة ، كما قال سبحانه : { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] . إذن : القاذف هو الله ، والمقذوف الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا يتغير ، والغاية المقصودة هي وصول الرسالة إلى مَن اختاره الله لها ، وهذه العملية لا تخطىء لأن القاذف عالم بكلِّ غيب يؤثر على مسار المقذوف ، فالحق لا بُدَّ أنْ يصل إلى صاحبه المختار له والمصطفى لحمله ، لا إلى سواه . لذلك هذه الآية تردُّ على هؤلاء الذين يقولون : إن الرسالة أو الوحي أخطأ ، فنزل على محمد بدل أنْ ينزل على فلان ، فهذا تخبُّط لا سند له . وكلمة { ٱلْغُيُوبِ } [ سبأ : 48 ] هنا تدل على كثرة المؤثرات التي يمكن أن تعترض القذيفة ، فتُحول بينها وبين هدفها ، وهذه المؤثرات لا يعلمها إلا الله . فإنْ قلت : الفعل يقذف جاء في صيغة المضارع الدال على الحال والاستقبال ، يعني : أن الحق سبحانه عمله أنه يقذف بالحق إلى الرسل ، فهل قذفه إلى رسول الله ؟ تأتي الإجابة في قوله تعالى في الآية بعدها : { قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ … } [ سبأ : 49 ] يعني : قذفه بالفعل في صورة القرآن الذي نزل على محمد الذي اختاره الله للرسالة ولحمل منهجه إلى خَلْقه لينظم به حركة حياتهم ، وإذا كان الحق الواضح الثابت قد جاء وظهر ، والذي قذفه علام الغيوب ، فما موقف الباطل المقابل له ؟ لا بُدَّ أنه يتراجع ، ولا يستطيع الصمود أمام قوة الحق . { وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ سبأ : 49 ] فلا يبدىء في الأولى ، ولا يعيد في الأخرى ، يعنى : كما نقول : لا في العير ولا في النفير لا يهش ولا ينش ، هذا إذا كان للباطل وجود أو ثبات ، إنما الباطل ما هو إلا خيال بعيد في أذهان أصحابه لا وجودَ له . والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا صورة حسِّية للحق والباطل ، فيقول سبحانه : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا … } [ الرعد : 17 ] يعني : كل وادٍ يحوي من الماء على قدر اتساعه { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } [ الرعد : 17 ] . والزَّبَد هو القشّ والفتات الذي يحمله الماء ، وهو تافه لا نفعَ فيه ، يأتي الهواء فيزيحه هنا وهناك ، وتبقى صفحة الماء نقية لينتفع الناس به . ومعنى رابياً : طافياً على السطح ، وفي هذا إشارة إلى أن الباطل لا نفعَ فيه ، ولا بقاءَ له مهما علا ، وأن وجوده كوجود هذا الغثاء ، الذي لا قيمةَ له ، ولا فائدة منه . ثم يقول الحق سبحانه : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي … } .