Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 52-52)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبحان الله ، فبعد أنْ فعلوا برسول الله وأتباعه ما فعلوا ، وبعد أنْ فَزِعوا وحاق بهم العذاب يعلنون الإيمان ويقولون { آمَنَّا بِهِ } [ سبأ : 52 ] وما أشبه هذا بإيمان فرعون لما أدركه الغرق { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 90 ] فردَّ الله عليه { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 91 ] يعني : هذا وقت لا ينفع فيه إيمان . وهنا يردُّ الحق عليهم إيمانهم ، فيقول : { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } [ سبأ : 52 ] أي : تناول الإيمان { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ] كلمة أنّى يعني : كيف لهم الإيمان الآن ، وهم في موقف الموت أو البعث ، فقد كان الإيمان قريباً منهم في الدنيا ، أما الآن أبعد ما يكون عنهم . لذلك استخدم السياق أداة الاستفهام أنّى ولها معنيان : بمعنى كيف الدالة على التعجُّب يعني : هذا أمر غريب وعجيب منهم ، وتأتي أنّى بمعنى من أين كما جاء في قول سيدنا زكريا للسيدة مريم : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [ آل عمران : 37 ] . يعني : من أين لك هذا الرزق ؟ لذلك ينبغي لولي الأمر أن يتعلَّم من هذه الآية إذا رأى عند أهله شيئاً لم يأتِ لهم به أن يسألهم من أين جاءوا به ، وكيف وصل إلى بيته ، وهذا احتياط واجب لأن هذا الشيء قد يكون تسللاً أو استمالة إلى معصية . وترد السيدة مريم على هذا السؤال { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 37 ] ثم تذكر حيثية ذلك { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] يعني : إياك أنْ تحسب المسائل بقدرتك ، فتقول : من أين أتتك فاكهة الصيف في الشتاء ، أو فاكهة الشتاء في الصيف ؟ لأن هذا عطاء الله وقدرته . وكأن هذا القول من السيدة مريم قد نبّه سيدنا زكريا إلى قضية غفل عنها ، فهزَّتْه هذه الكلمة { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] . عندها قال في نفسه إذن : لماذا لا أدعو الله أنْ يرزقني الولد بعد أن بلغْتُ من الكِبَر عتيّاً وامرأتي عاقر ، فعطاء الله لا يخضع للأسباب { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } [ آل عمران : 38 ] . وهكذا استفاد سيدنا زكريا من هذه القضية العقدية التي نبهته لها السيدة مريم ، وفعلاً استجاب الله له وأعطاه ولداً ، بل أكَّد ذلك بأنْ سَمَّاه له { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 39 ] . وهذا تسجيل للبُشْرى وتأكيد لها ، ومن ذلك ما رُوي عن سيدنا أبي بكر ، فقبل أنْ يموت أوصى السيدة عائشة بخصوص الميراث من بعده ، فقال لها : إنما هما أُختاك وأخَواك . في وقت لم يكُنْ لها إلا أخوان هما : عبد الرحمن ومحمد ، وأخت واحدة هي السيدة أسماء ، لكن بعد موت الصِّدِّيق ولدتْ زوجته بنت خارجة بنتاً فصدقتْ وصية الصِّديق ، وهو - رضي الله عنه - لم يكُنْ علم الغيب ، إنما عُلِّم ، وأنطقه الله بذلك ، لأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله ، فلا احد يعلم ما في الأرحام بذاته ، إنما يُعلَّم من الله . وقد ورد عن سيدنا رسول الله أنه قال لأهل المدينة : " المحيا مَحْياكم ، والممات مماتكم " فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه سيموت في المدينة ، والله تعالى يقول : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [ لقمان : 34 ] . فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ يعلم غيباً ، إنما عُلِّم الغيب من علاَّم الغيوب سبحانه لذلك لا نقول فلان عالم غيب ، إنما مُعلَّم غيب . لذلك كثيراً ما نرى بعض أهل الصلاح أو الذين كشف الله عنهم الحجاب يرى السيدة الحامل فيقول لها سَمِّ هذا الولد محمداً ، وفعلاً تلد ولداً ، وتسميه محمداً ، هذا تسجيل للبُشْرى وإلهام من الله وتعليم لمن اختارهم الله لهذا العلم . والناس حين يُسمون يختارون الاسم الذي يُتفَاءل به ، فيقولون : سعيد ، ذكي … إلخ تفاؤلاً أن يكون الولد بالفعل سعيداً أو ذكياً ، لكن أتملك أن يكون الاسم على مُسمَّاه ؟ لا لا أحد يملك أنْ يكون ولده كما يريد ، لكن إذا كان المسمِّى هو الله سبحانه فهو وحده القادر على تحقيق المسمَّى . لذلك لما وهب لسيدنا زكريا الولد وسماه يحيى لم يفطن الناس إلى هذه التسمية ، وأنها من الله تعني أن هذا الولد سيحيا ولا يموت ، فالله سماه يحيى ليحيا ، وفي هذه التسمية إشارة إلى أنه سيموت شهيداً ، فتتصل حياة الدنيا بحياة الشهادة ، ولو فطن قَاتِلوه إلى هذا المعنى ما قتلوه . لذلك لما ذهبنا لزيارة قبر سيدنا حمزة قلنا هناك : @ أَحَمْزةَ عَمّ المصْطَفى أنتَ سَيِّدٌ على شُهَداء الأرْضِ أجمعِهمْ طُرّا وحَسْبُكَ من تِلْكَ الشهادةِ عِصْمةٌ من الموْتِ في وَصْل الحيَاتَيْن بالأُخرى @@ وهذه القضية العقدية التي استفاد منها سيدنا زكريا فطلب من الله الولد ، استفادت منها السيدة مريم بعد ذلك حين حملت بلا ذكورة ، فتذكرت { إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] فاطمأن قلبها . فكلمة أنَّى في قوله تعالى : { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ] هى بمعنى كيف ، ومثلها قول السيدة مريم لما بُشّرت بعيسى : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] . ومثل قوله تعالى : { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } [ البقرة : 259 ] فالسؤال هنا عن كيفية الإحياء ، وهي مسألة لا تُقال إنما تُشَاهد ، ألم نقرأ قول سيدنا إبراهيم : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] . وللمستشرقين اعتراض على هذه الآية . يقولون : كيف يخاطب الله أبا الأنبياء إبراهيم ويقول له : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } [ البقرة : 260 ] ويقول هو { بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ، وهل الإيمان إلا اطمئنان قلب إلى عقيدة ما ؟ ونقول : الإيمان خلاف الاطمئنان هنا ، فالإيمان بأن الله يحيى الموتى موجود عند إبراهيم ، فهو لم يسأل : أيوجد إحياء للموتى من الله أم لا يوجد لأنه يؤمن بقدرة الله على إحياء الموتى ، إنما يسأل عن كيفية ذلك ، فالاطمئنان المقصود على الكيفية ، بدليل أن الله تعالى أظهر له آية عملية وتجربة حسِّية في مسألة ذبح الطير لأن الكيفية كما قلنا لا تُقَال إخباراً إنما تُشَاهد . فالحق سبحانه ينكر على الكفار تناولهم للإيمان في هذا الوقت { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ] التناوش تناول الشيء بيُسْر ، وهم يريدون تناول الإيمان في آخر لحظة ، وبعد فوات أوانه وضياع فرصته ، يريدون إيماناً بلا تكاليف ، وأنَّى لهم ذلك ، وهم أبْعد ما يكونون عن الإيمان ، لأن محل الإيمان في الدنيا ، فهذا القول منهم أشبه بقول أصحابهم الذين قالوا : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } [ فاطر : 37 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ … } .