Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 10-10)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

التأبِّي على الرسالات تأبٍّ على أن يكون المؤمن الذي يُكلَّف بتكليفات تِبَعاً لرأي غيره وطَوْع أمره ، والرسول ما جاء إلا ليقول لنا افعل كذا و لا تفعل كذا ، وبعض الناس يرى في هذه الطاعة خَدْشاً لكرامته وعزته ، فهو يريد أنْ يكون الأعلى الذي لا يأمره أحد ولا ينهاه ، وهؤلاء الذين تتحدث عنهم الآية يريدون أن تكون لهم العِزَّة في نفوسهم . والحق - سبحانه وتعالى - هنا يُصحِّح لهم معنى العزة ويُبيِّن غباءهم ، فيقول سبحانه : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ } [ فاطر : 10 ] أي : العزة الحقيقية لا المدَّعاة : { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر : 10 ] فالعزة الحقيقية ألاَّ تكون مغلوباً ولا مقهوراً لأحد ، وهذه العزة لا وجودَ لها إلا في رحاب الله ، فمهما بلغ الإنسانُ في الدنيا من القوة والجبروت لا بُدَّ أنْ يُغلب ، ولا بُدَّ أنْ يقهره الموت ، فإنْ كنتَ مغرماً بعزة لا تزول ، فهي من جنب الله . لذلك فالله تعالى يُعلِّمنا الحكمة ، فيقول : { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [ الفرقان : 58 ] يعني : أنا أعلم بك وأعلم بضعفك ، وأنك في حاجة إلى مَنْ تتوكل عليه ليقضي لك الأمور التي فوق طاقتك ، فإياك أنْ تلجأ إلى غيري ، فأنا الباقي الذي لا يموت ، فإنْ توكلْتَ على ضعيف مثلك ، فربما مات قبل أنْ يقضى لك حاجتك ، كذلك مَنْ أراد العزة فليكُنْ في حضن الله يعتزُّ بِعزَّته ، ويتقوَّى بقوته ، ومَنْ كان في حضن الله يخلع الله عليه من صفاته ويفيض عليه . لذلك سيدنا رسول الله يعطينا هذا الدرس ، " وهو في الغار ، ومعه الصِّدِّيق - رضي الله عنه - فيقول الصِّديق : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ، فيقول سيدنا رسول الله وهو واثق بربه : " يا أبا بكر ما بالك باثنين الله ثالثهما " " وحكى عنه القرآن قوله : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] . فهذه الطمأنينة التي ملأتْ قلب رسول الله منشؤها معية الله له ولصاحبه ، وهذه المعية تقتضي أنْ يخلع الله عليهما من صفاته سبحانه ، فإذا كان تعالى لا يُرى ، فمَنْ كان في معيته كذلك لا يُرى . ومعنى { ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر : 10 ] يعني : كل ألوان العزة ، وهذه المسألة من المسائل التي تكلَّم فيها المستشرقون ، يلتمسون فيها مأخذاً على كلام الله ، يقولون : إن الله يقول { فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً } [ فاطر : 10 ] وفي آية أخرى : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] . ولا تعارض بين الآيتين لأن العزة في الأصل لله ، وعِزَّة الرسول من التحامه بالعزيز ، وعزة المؤمنين من التحامهم بعزيز العزيز ، فهي عزة موصولة من الله تعالى لمَنِ اعتزَّ به ، وأول مَنِ اعتزَّ بالله رسوله ، ثم المؤمنون به . ثم يقول سبحانه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] دائماً نخاطب الله على جهة العلو ، مع أنه سبحانه في كل مكان ، وليس له مكان ، لذلك يحتج البعض على هذه المسألة فيقول : كيف أن الله ليس له مكان ، وسيدنا رسول الله لما أراد الله أنْ يُكلِّمه أصعده إلى السماء السابعة ؟ نقول : كان الصعود لمكان الرائي لا لمكان المرئي ، فالرائي لا يرى إلا من هذا المكان ، فمثلاً لو أننا سمعنا الآن ضجة خارج المسجد ، وهذه النافذة التي تُطِل على هذه الضجة عالية ، فماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تعرف ما يدور بالخارج ، لا بُدَّ لك أنْ تصعد هذا العلو لترى ما يحدث ، فالأحداث هي هي ، لكن مكان الرائي يختلف . ومعنى { ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ } [ فاطر : 10 ] هذا وصف عام لكل كلام يدلُّ على منهج الخير ، وقد أعطانا القرآن مثالاً لذلك في قوله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ * تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا … } [ إبراهيم : 24 - 25 ] . وقد حاول العلماء تحديد هذه الكلمة ، فقالوا هي : كلمة لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله ولا قوة إلا بالله ، ولكن هذا التحديد يُضيِّق المعنى الواسع الذي أراده الله تعالى منها ، والأصوب أن نقول الكلمة الطيبة : كل كلام يؤدي إلى خير . وقوله تعالى : { وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] بعد أن تكلم سبحانه عن صعود الكلم الطيب يتكلم عن رفع العمل الصالح لأن الإنسان قد يتكلم بالكلمة الطيبة دون أن تُؤدي مطلوبها ، ودون أنْ يترجمها إلى عمل ، وربما قالها نفاقاً مثلاً ، كالذين قالوا لا إله إلا الله نفاقاً وفراراً من القتل ، ومع ذلك تصعد إلى الله ، فيقول الله احموه بهذه الكلمة دنياه ، ولا تتعرضوا له ما دام نطق بها ، إنما ليس له عليها جزاء في الآخرة لأن الجزاء يتأتَّى من العمل الذي يخدم مدلول الكلمة ، فالعبرة إذن بالعمل والعمل الصالح ، فهو الذي يُرفع إلى الله ، ويحميك في الدنيا ، ويحميك في الآخرة ، ويجمع لك الخيرين . ثم يذكر الحق سبحانه وتعالى المقابل : { وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ فاطر : 10 ] الفعل مكر يتعدى بحرف الجر نقول : مكر بفلان ومَكَره يعني : خدعه ويتعدَّى بنفسه كما في { يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } [ فاطر : 10 ] وأصلها يمكرون المكْرات السيئات ، فهي وصف لمصدر مأخوذ من مادة الفعل مثل : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ النساء : 122 ] أي : الأعمال الصالحات . أو مكر : فعل مكراً ، فيكون المعنى : والذين فعلوا السيئات . ثم يبين سبحانه جزاء المكر السيء : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ فاطر : 10 ] لماذا ؟ لأنك حين تمكر ، كأنك تريد أنْ تسرق شيئاً من الله ، وتظن أنه لن يدري بك ، وغفلتَ أنك تُبيِّت المكر سِرًّا ، وهو سبحانه يعلم السِّر والنَّجْوى ، وأنك حين تمكر وحين تُبيِّت تُبيِّت على قدر إمكاناتك ، وربك عز وجل كذلك يمكر ويُبيِّت على قدر إمكاناته ، وقدرته تعالى : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [ الأنفال : 30 ] . لذلك يبوء هذا المكر بالخسران وبالبوار ، كما قال سبحانه : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } [ فاطر : 10 ] فهو مَكْر بائر ، كالأرض البَوَار التي لا تنبت ولا تنتج ، ومنه قوله سبحانه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] . فهذا المكر الذي ظنه صاحبه ينفعه ، ويرفعه على خَصْمه ، ويجعل نفسه عالية عليه ، إذا به يبور ، ولا يؤتى ثماره ، ولَيْته يبور وتنتهى المسألة ، إنما ينقلب عليه ويجرُّ على صاحبه العذاب الشديد . ومعنى { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [ فاطر : 10 ] اللام تفيد الملكية ، فهنا قلب يعني : لهم عذاب أي : استحقوه وكأن العذاب يحرص عليهم كما يحرص الإنسان على ما يملك ، فهو عذاب ملازم لهم لا ينفك عنهم .