Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 19-22)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه حقائق يقررها الحق سبحانه ، فالمتناقضان لا يستويان ، لأن الأعمى لا يعرف مواقع الأشياء من حركته ، والبصير يعرف مواقع الأشياء من حركته ، البصير يرى مواقع الأشياء ويتفادى الأخطار ، أما الأعمى فلا بُدَّ له من مرافق يتطوع بصداقة عينه السليمة للعين الغائبة ، لذلك نقول : إنْ أعطى الأعمى للعمى حقه صار مبصراً ، كيف ؟ لأنه لا يتكبر أن يستعين بالمبصر ، فحين ينادي على مَنْ يأخذ بيده تتسابق إليه كل العيون من حوله لتساعده ، أما إنْ تعالى فسرعان ما يندب على وجهه . والعمى والبصر حِسِّيات توضح المعنوي ، فالمراد لا يستوي الجاهل والعالم لأن حركة الحياة تنقسم إلى حركة مادية : تأتي وتذهب ، تزرع وتقلع … إلخ وحركة قيمية معنوية ، وهي الروحانيات والأخلاقيات العالية ، مثل معاني : الإيمان ، الصدق ، الوفاء ، العدل ، الرحمة … إلخ . وإذا كانت الحركة المادية الحسية تحتاج إلى نور حسيٍّ يهديك حتى لا تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك ، أو بما هو أضعف منك فتحطمه ، فكذلك الحركة القيمية المعنوية الروحية تحتاج إلى نور معنوي يهدي خُطَاك كي لا تضلّ ، هذا النور المعنوي هو المنهج الذي قال الله فيه : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15 - 16 ] . فالشمس هي النور الحسي ، والقرآن هو النور المعنوي لذلك قلنا في قوله تعالى : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] أي : مُنوِّرهما بالنُّوريْن . الحق سبحانه سبق أنْ ذكر لنا التقابل بين الماءيْنِ العذب والمالح ، فقال سبحانه : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [ فاطر : 12 ] نعم ، لا يستويان ، لكن العلاقة بينهما علاقة تقابل كالليل والنهار ، لا علاقة تضادٍّ كالأعمى والبصير ، بدليل أن الله جمعهما معاً ، فقال : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] فإن اختلف المتقابلان ، فلكل منهما مهمة يؤديها ، فهما متساندان لا متعاندان . وبعد أن ذكر الحق سبحانه عدم استواء الأعمى والبصير يقول : { وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ } [ فاطر : 20 ] ، لأن النور هو مصدر الإبصار فالمبصر لا يرى شيئاً في الظلمة . هذا في العمى والبصر الحسي ، أما القيم والمعنويات فلها مقياس آخر لذلك يقول تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] ، فقد يكون الرجل مبصراً وهو أعمى بصيرة . والأعمى في المعنويات هو الذي يجهل الحكم الذي يهديه إلى منطقة الحق في كل القيم ، والبصير هو العالم بهذه الأحكام . وحين تتأمل أسلوب هاتين الآيتين . تجد فيهما ملمحاً من ملامح الإعجاز في كلام الله ، فالأولى { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } [ فاطر : 19 ] قرنت بين الاثنين باستخدام واو العطف ، أما الأخرى { وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ } [ فاطر : 20 ] فذكرت لا النافية الدالة على توكيد عدم الاستواء ، فلم يَقُل الحق سبحانه كما في الأولى : ولا الظلمات والنور ، لماذا ؟ قالوا : لأن العمى والبصر صفتان قد تجتمعان في الشخص الواحد ، فقد يكون أعمى اليوم ويبصر غداً ، قد يكون جاهلاً ويتعلم ، أو كافراً ويؤمن ، فيطرأ عليه الوصفان لذلك لم يؤكد معنى عدم الاستواء ، أما الظلمات والنور فهما متقابلان لا يجتمعان . كما تلحظ في دقة الأداء القرآني لأن الحق سبحانه هو المتكلم ، فقال : { وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ } [ فاطر : 20 ] فالظلمات جمع والنور مفرد لأن مذاهب الضلال شتى ، فهذا يعبد النجوم ، وهذا يعبد الأصنام ، وهذا يعبد الملائكة … الخ . أما النور فواحد ، هو منهج الله المنزل في كتابه . لذلك لما أراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّم أصحابه هذا الدرس خَطَّ لهم خطاً مستقيماً ، ومن حوله خطوط متعرجة ، ثم تلا : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . ثم يقول سبحانه : { وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } [ فاطر : 21 ] وهما أيضاً متقابلان لا يجتمعان ، كذلك { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } [ فاطر : 22 ] وتلحظ هنا أن الحق سبحانه أعاد ذكر الفعل المنفي { وَمَا يَسْتَوِي } [ فاطر : 22 ] لتأكيد عدم الاستواء بين الحي والميت . وكذلك ذكر لا النافية الدالة على التوكيد لأن كلمة الأحياء تعني المؤمنين الإيمانَ الحق ، الذين يستحقون حياة أبدية باقية تتصل بحياتهم الدنيوية الفانية ، أما الأموات فهم الكفار الذين تأبَّوْا على منهج الله . أو : أن الأحياء هم الذين عرفوا أن الحياة الحقة هي العيش بمنهج ربهم الذي يؤدي بهم إلى الحياة الحقيقية الباقية التي قال الله عنها : { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] . وهذه هي الحياة المرادة في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] كيف وهو يخاطبهم وهم أحياء بالفعل ؟ إذن : المعنى يُحييكم الحياة الحقيقية التي لا تنتهي بموت ، ولا تُسلب منها نعمة . ومن ذلك أيضاً قوله سبحانه : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا … } [ الأنعام : 122 ] . ومن المعاني التى نفهمها من عدم استواء الأحياء والأموات أن الحيَّ خلقه الله وأمدَّه بأجهزة نفسية : عقلاً ، وأعصاباً ، وعضلات ، وسمعاً وبصراً … الخ وهذه الأعضاء لها قيمة ، ولها مهمة ، وعليه أنْ يستخدم هذه النعم استخداماً يجعلها وسائل لِنِعَم أخرى ، ثم ليعلم أنه في رحلة حياته لا بُدَّ أنه سيموت ، لكن ربه عز وجل أبهم له أجله ليكون ذلك عَيْن البيان ، وليظل على ذِكْر له طوال الوقت وينتظره في كل لحظة ، فعمرك محسوب بعدٍّ تنازلي ، وسهم الموت أُطلِق في اتجاهك بالفعل ، وعمرك بقدر وصوله إليك . بعد أن تكلم الحق سبحانه عن الحال في التكليفات فقال : لا يستوي الأعمى الجاهل بأصول دينه والبصير العالم بها ، ولا يستوي نور الإيمان والهداية مع ظلمات الضلال ، يتكلم سبحانه عن المآل ، فيقول : { وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } [ فاطر : 21 ] الظل كناية عن نعيم الجنة ، وفي موضع آخر قال : { ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] والحَرُور كناية عن العذاب وشدة حَرِّه . ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ومُسلِّياً له : { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } [ فاطر : 22 ] النبي صلى الله عليه وسلم جاء على كفر وجهالة من قومه ، فكانت دعوته أنْ يخرجهم من العمى والجهالة إلى ما ينير بصائرهم ويُخرِجهم من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان . وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هداية قومه يكاد يُهلك نفسه في سبيل دعوته لذلك خاطبه ربه بقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . كذلك هنا يخاطبه بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } [ فاطر : 22 ] أي سماع هداية إقبال ، وإلا فَهُمْ جميعاً يسمعون ، لكن هناك سماعُ إعراضٍ وسماعُ إقبال ، منهم مَنْ يقبل ويؤمن ويتأثر بكلام الله ، ومنهم مَنْ يسمع ثم يُعرض وينصرف عما سمع لذلك قال الله فيهم : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] . إذن : يا محمد ، لقد أديتَ ما عليك نحوهم ، وخاطبتَهم خطابَ هداية ، وخطابَ تهديد ووعيد ، فلم يسمعوا { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } [ فاطر : 22 ] فجعلهم الله لعدم سماعهم كالأموات ، وإلا " فرسول الله خاطب أهل قليب بدر من الكفار حين وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : " يا عتبة بن ربيعة ، يا شبيبة بن ربيعة ، يا أبا جهل أليس وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ، فإنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً " . فقال عمر : أتكلمهم وقد جَيَّفوا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " والله ، ما أنتم بأسمعَ منهم ، ولكنهم لا يتكلمون " . فالمعنى : ما أنت بمسمع السماع المؤدي إلى الهداية ، كما أنك لا تُسمع مَنْ في القبور لأن زمن السماع وقبول الهداية انتهى بالموت . لكن إذا كان رسول الله لا يُسمع مَنْ في القبور ، فما مهمته ؟ يقول سبحانه بعدها : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } .